+ A
A -
تتغير أصواتنا لأسباب مختلفة. تتبدل مع السن وتختلف بحسب الموقف والمزاج. تتباين طبقاً للحالة النفسية وأحياناً نغيرها للضرورة. ترتفع وتنخفض. تعلو وتنكسر. تغلظ وتدق. أصواتنا جزء من شخصياتنا. لكل منا صوت يميزه يحمل بصمة وذبذبات خاصة. وأصواتنا مقدمات نتعرف من خلالها على شخصيات بعضنا. وكذلك الحال بالنسبة لصوت الشعوب. كلامها ونبرة صوتها تكشف عنها.
فلكل مجتمع صفة صوتية يتفرد بها. ومثلما تتغير الصفات الصوتية للفرد، تشهد الصفات الصوتية للمجتمع أيضاً اختلافاً بين وقت وآخر. ومن بين ما يلاحظ على الهوية الصوتية العربية أن الصوت العالي بات لصيقاً بها. وهو أمر يسهل تتبعه ولا يصعب تفسيره. على جانب التتبع، يكثر الصوت العالي من حولنا في كل مكان. منطقتنا تغص بالصراعات والحروب. والبارود والمدافع لا تعرف بطبعها غير الصوت العالي. وقد علا صوتها بشدة في السنوات القليلة الماضية. الراديو والتلفاز يغصان بالصراخ وبديكة يتصايحون. النافذة ما أن تفتحها إلا لتغلقها بسبب الضجيج. تذهب إلى المسرح فلا تعرف لماذا يلجأ المسرحيون إلى النبرة العالية ناهيك أحياناً عن الألفاظ النابية. تصلي في المسجد فتجد أئمة ينفثون غضباً ويصرخون في الناس بالوعيد. تتابع السياسيين فتندهش من كم التوتر الذي يحملونه. حتى المثقفين فقدوا ما يفترض فيهم من هدوء. انخرطوا في مبارزات وصراخ وفق المثل الساري «خدوهم بالصوت ليغلبوكم». باتت الحياة الاجتماعية والرياضية والسياسية والثقافية والدينية العربية باختصار تضج بالصوت العالي. وما الصوت العالي إلا جزءًا من ظاهرة التلوث السمعي التي بات الأفراد بل والدول يتراخون معها.
أما تفسير انتشار الصوت العالي فيرجعه البعض إلى أنماط الشخصية الطاغية حالياً على المشهد العربي. ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر شخصيات الثرثار والمتردد والعنيد ومدعي المعرفة ومتصيد الأخطاء والموسوس. وكلها نماذج أفرزتها تحولات اقتصادية واجتماعية عميقة. وفضلاً عن أن تلك الأنماط تحب أن تتكلم كثيراً فإنها تميل أيضاً إلى أن تتكلم بصوت عال. فهي لا تسمع إلا نفسها. ويرد البعض الآخر الصوت العالي إلى طبيعة الشخصية العربية بشكل عام. فالعرب في أحد التعريفات النقدية «ظاهرة صوتية»، يعرفون كيف يملأون الكون ضجيجاً. ويرتبط الصوت العالي كذلك بمجمل أحوال العرب. فوسط الحروب العديدة التي يخوضونها والعداءات القديمة واللئيمة بينهم. وفي ظل المخاوف الأمنية التي تتملكهم والأحقاد والمؤامرات التي يدبرونها وضغوط الحياة التي تؤلمهم. في وسط هكذا ظروف لا يمكن أن تتكون شخصية صوتية سليمة. فالصراخ والصوت العالي رد فعل طبيعي يصدر عند الخوف والقلق. كما أن كثيراً من العرب نشأ على حب التحكم والسيطرة وأن يهيمن على غيره قبل أن يهيمن غيره عليه. ومن يعيش في ظل هذه الثقافة يتوقع أن يرفع صوته باعتبار أن الصوت العالي دليل على السيادة والانتصار.
كل هذه الأسباب الفردية والعامة صحيحة. فقد يكون اللجوء إلى الصوت العالي ناتجا عن حماسة زائدة أو غيرة مفرطة. وقد يكون على النقيض دليلاً على الاضطراب والعصبية والعجز عن تقديم حجج مقنعة. والأمران معاً، الحماسة الزائدة والقلق الزائد، باتا يسيطران على الشخصية العربية. فأصحاب الأيديولوجيات من العلمانيين والدينيين كثيراً ما يصرخون ويرفعون أصواتهم لأن حماستهم لأفكارهم واعتقادهم بأنها الكمال المطلق يمنعهم من التريث مع أي فكر أو رأي مخالف يسمعونه. والدولة العربية بدورها باتت تصرخ أكثر وترفع صوتها في وجه الناس. في كل ليلة يعلو صوتها عبر وسائل الإعلام التي تديرها. باتت الدول العربية أكثر قلقاً عن ذي قبل لأن وجود بعضها بات على المحك وأداء بعضها الآخر لم يعد يطمئن. ومثل الفرد القلق الذي يصرخ ويرفع صوته لكي يشعر نفسه بالاطمئنان تفعل الدول نفس الشيء. ترفع صوتها لتهيمن وتظهر أنها واثقة. فالصوت العالي ملازم للشخصية القلقة فردية كانت أو جماعية.
ويجب أن تدق ظاهرة الصوت العالي جرس إنذار. فعندما تتحول إلى اتجاه عام وميل ملموس لدى الأفراد والجماعات والدول، وعندما تتكون ثقافة شعبية وسلوك جماهيري يتمحور حول رفع الصوت والاعتقاد أن كسب المعارك يحتاج إلى توظيف قوى للحنجرة فلا بد أن يتملكنا الخوف من المستقبل وعلى المستقبل. فالصوت العالي سواء بين الأفراد أو الجماعات أو بين الدولة والمعارضة أو بين الدول العربية وبعضها يعني أن المجال العام يشهد صراعاً وأن كل خاص يحاول أن يستولي عليه بالصوت العالي ليكون النطق والرأي لفرد أو لتيار أو لبلد بعينه. إن الصوت العالي دليل على العجز وهو الطريق إلى تكوين مجتمع عصبي عنيف. اللجوء إليه يعكس رغبة جامحة في الهيمنة على الحقيقة والسيطرة على الآخرين. وتلك أمور مدمرة يجب الانتباه إليها. نعم يستطيع الأفراد وتستطيع الجماعات والدول أن ترفع صوتها لكن ذلك لا يضمن لها أن ترتقي بصورتها.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
05/03/2018
6101