+ A
A -

لم تحد قطر يوما عن موقفها الثابت وإيمانها الراسخ بعدالة القضية الفلسطينية، التي كانت بالنسبة إليها قضيتها المركزية الأولى، بذلت الكثير من أجل نصرة شعبها ودعمه وتمكينه من الثبات على أرضه، عبر تقديم المساعدات الإنسانية المتواصلة والسخية، كما سخرت كل إمكانياتها الدبلوماسية لإنصافه عبر الدفع باتجاه حل عادل وشامل يمكنه من إقامة دولته المستقلة على حدود عام «1967» وعاصمتها القدس الشرقية.

خلف كل ذلك كان يقف رجل السلام والوئام، حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، الذي لم يدخر جهدا أو وقتا في سبيل نصرة الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، فحمل لواءها إلى كل محفل، وكانت الموضوع الرئيسي في جميع الخطابات السامية، وآخرها كلمة سموه في القمة العربية الإسلامية المشتركة غير العادية التي انعقدت في الرياض، التي بدأها بإشارة في غاية الأهمية حول فشل المجتمع الدولي في تحمل مسؤولياته القانونية والأخلاقية، واتخاذ ما من شأنه إيقاف جرائم الحرب والمجازر المرتكبة باسم الدفاع عن النفس، ووضع حد لهذه الحرب العدوانية.

في تلك الكلمة عبر عما يجيش في صدور وقلوب العرب والمسلمين وجميع الشعوب المحبة للسلام: «وإذ تنفطر قلوبنا ألماً لمشاهد قتل الأطفال والنساء والشيوخ بالجملة، والمعاناة الإنسانية، نتساءل إلى متى سيبقى المجتمع الدولي يعامل إسرائيل وكأنها فوق القانون الدولي، وإلى متى سيسمح لها بضرب كافة القوانين الدولية عرض الحائط في حربها الشعواء التي لا تنتهي على سكان البلاد الأصليين؟».

لم يكتف سموه بنقل مشاعر الألم فحسب، بل وجه مجموعة من التساؤلات، كان العالم الغربي في معظمه وقتها قد أشاح النظر عنها: «كيف أصبح قصف المستشفيات أمراً عادياً؟ يتم إنكاره واتهام الضحايا بداية، ثم يبرر بوجود أنفاق تحتها، ثم يصبح أمراً لا حاجة لتبريره بعد تبلد المشاعر وتعوُّد الأعينِ على مشاهدة المآسي. هذه أمور غير مسبوقة. وجدنا في هذه الحرب أو قبل هذه الحرب أثناء حصار غزة ارتفاعاً ملحوظاً في معدلات المناعة لدى بعض الدول التي تدعي حماية القانون الدولي والنظام العالمي، حيث رأينا مناعتهم تجاه مناظر القتل العشوائي للمدنيين الفلسطينيين سواء كانوا أطفالا أو نساء، وكذلك قصف المستشفيات والملاجئ أصبحت لا تؤثر فيهم، ووصلت معدلات المناعة لديهم إلى رؤية جثث الأبرياء وهي تنهشها الكلاب لا تحرك لتلك الدول ساكناً، سبحان الله قوة المناعة فقط على أشقائنا الفلسطينيين».

لم ينقض وقت طويل على تلك العبارات المؤثرة، حتى بدأ العالم يدرك فداحة ما يحدث، ويدرك حجم الجريمة التي تتوالى فصولها في غزة بحق الأطفال والنساء والمستشفيات والمدارس، وكل ما له علاقة بحياة المدنيين العزل.

استطاعت قطر، بقيادة صاحب السمو وتوجيهاته ومتابعته الحثيثة، والجهود المقدرة والنشطة والدؤوبة لمعالي الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن جاسم آل ثاني رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية، أن تتصدى بحزم وعزم لكل ما كان يتم ترويجه بعيدا عن الحقائق التي تحدث على الأرض، وأن تضع العالم بأسره أمام مسؤولياته التاريخية لوقف نزيف الدم والتحرك بعيدا عن المواقف النمطية غير المبالية، والكف عن سياسة الكيل بمكيالين، وحققت نجاحا باهرا بالتوصل لاتفاق هدنة إنسانية في غزة، بعد نجاح جهود الوساطة المشتركة مع جمهورية مصر العربية والولايات المتحدة الأميركية، بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية «حماس»، والتي أسفرت عن التوصل إلى اتفاق لهدنة إنسانية تشمل تبادل «50» من الأسرى من النساء المدنيات والأطفال في قطاع غزة في المرحلة الأولى، مقابل إطلاق سراح عدد من النساء والأطفال الفلسطينيين المحتجزين في السجون الإسرائيلية، على أن تتم زيادة أعداد المفرج عنهم في مراحل لاحقة من تطبيق الاتفاق، كما ستسمح الهدنة بدخول عدد أكبر من القوافل الإنسانية والمساعدات الإغاثية بما فيها الوقود المخصص للاحتياجات الإنسانية.

بمجرد الإعلان عن الاتفاق توالت ردود الفعل العالمية المؤيدة والمرحبة، وتوالت عبارات الشكر والتقدير لدولة قطر وعلى رأسها صاحب السمو أمير البلاد المفدى، وكان أبرزها ما أعرب عنه الرئيس الأميركي جو بايدن، من امتنان لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، لقيادته الحاسمة وشراكته التي ساهمت في التوصل إلى هذا الاتفاق.

بالنسبة لقطر فإن التوصل إلى هذه الهدنة هو بداية الطريق فحسب، من أجل التأسيس لاتفاق شامل ومستدام يوقف آلة الحرب ونزيف الدماء، ويفضي إلى محادثات جادة لعملية سلام شامل وعادل، وفقاً لقرارات الشرعية الدولية، كما أكد معالي الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن جاسم آل ثاني رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية، وهذا يعني أن العمل مستمر والجهود متواصلة في سبيل وضع حد نهائي لهذا العدوان الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، ثم الدفع باتجاه تسوية طال أمدها عقودا وعقودا، وكان لغيابها مخاطر كبيرة وجسيمة، على أمن المنطقة والعالم، والمتأمل في تداعيات هذه الحرب وإمكانية اتساعها سوف يدرك سريعا مدى الخطر الذي تشكله ما لم يتم الدفع باتجاه هدنة دائمة ووقف شامل لإطلاق النار، تتبعه على الفور محادثات سلام حقيقية، تقوم على قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية، على أن تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام «1967» وعاصمتها القدس الشرقية.

إن كل حديث يدور خارج هذه المعادلة يعني الدفع باتجاه حرب أوسع وأشمل وأخطر، وربما تكون الدول الغربية أول من أدرك ذلك بعد شهر ونصف من العدوان على غزة، وهذا يفترض تحرك الجميع دون استثناء في سبيل تحقيق وقف إطلاق نار دائم، والتداعي لمفاوضات تثمر عن تلبية الحد الأدنى من التطلعات الفلسطينية التي لحظتها القرارات الدولية الصادرة بشأن هذا الصراع.

لم يعد هناك أي مجال للتلكؤ، وتطويق هذه الحرب وإطفاء نيرانها دون تحقيق سلام عادل يعني السماح لـ «جمرها» بالبقاء متوهجا تحت رماد المماطلة والتسويف، ما يمكن أن يقود إلى انفجارات أخرى أكثر خطورة.

لقد نجحت الوساطة القطرية في وضع نهايات سعيدة لكثير من أزمات ومشاكل المنطقة في السنوات الماضية، ولم تقتصر تلك الوساطات على الشأن العربي، بل امتدت كذلك إلى القارة السمراء وإلى نزاعات وقضايا في القارة الآسيوية.

ويعود سبب النجاحات القطرية إلى الإمكانيات الدبلوماسية والعلاقات القطرية القوية مع الأطراف المختلفة، والحياد تجاه الأطراف المختلفة في تلك الملفات، بالإضافة إلى الأهمية التي توليها قطر لهذا الجانب، وما تحقق بالأمس خطوة جديدة تؤكد سلامة التوجهات القطرية، والحرص الأكيد على الدفع باتجاه كل ما من شأنه تعزيز الأمن والسلم الدوليين، وما سمعناه من ردود فعل على نجاح جهود وساطة دولة قطر بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية «حماس»، يؤكد على أهمية استمرار المساعي القطرية لخفض التصعيد وحقن الدماء وحماية المدنيين؛ بهدف تعزيز الأمن والسلام والاستقرار في المنطقة.

والأمل معقود في أن تشكل هذه الخطوة المهمة، كما أعرب مجلس الوزراء في اجتماعه أمس، بداية الطريق لإنهاء معاناة مواطني قطاع غزة المحاصرين، وحقن الدماء وتدفق قوافل الإغاثة والمساعدات الإنسانية دون عوائق، وبما يلبي الاحتياجات الأساسية لسكان القطاع كخطوة أساسية نحو تحقيق اتفاق شامل ومستدام يوقف آلة الحرب، ويفضي إلى محادثات جادة بعملية سلام شامل وعادل، وفقا لقرارات الشرعية الدولية.

آخر نقطة

ستبقى جهود حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى علامة مضيئة في التاريخ الإنساني، فما فعله سموه لحقن الدماء ووقف النزاعات، ووأد الحروب والصراعات في أكثر من منطقة جغرافية، لم يسبق أن شهدنا له مثيلا، وهذا ليس بغريب على الإطلاق على أمير السلام والوئام.

محمد حمد المري - رئيس التحرير المسؤول

copy short url   نسخ
23/11/2023
205