+ A
A -
بحري العرفاوي كاتب تونسي

حين يبلغ مجتمع حالة من الامتلاء الروحي ويتعالى عما هو معتاد في عالم الأشياء، فإنه يمتلك حتما معايير ذهنية وروحية مختلفة تماما عما هو سائد بين عموم البشر سواء في الحكم على الأشياء أو في الحكم على الأحداث، وسواء في النظرة إلى الجغرافيا وسواء في النظرة إلى الزمن.

عملية طوفان الأقصى لم تكن مجرد منازلة عسكرية أو مجرد استعراض لرشاقة قتالية، بل كانت «تجليا» معنويا في لحظة امتلاء روحي بعد فترة غير قصيرة من الإعداد والإمداد، وبعد جهد غير قليل في التنشئة والتعبئة.

إن العالم بما يرزح تحته من أثقال الأشياء وبما يخالط نفسه وعقله من الأهواء والأنانية والشهوانية لا يمكنه أن ينظر لما حدث فجر 7 تشرين الأول /‏ أكتوبر نظرة فهم وتقدير، وذلك لعدم امتلاك المعايير العقلية والروحية المؤهلة لفهم لحظة «التجلي» تلك ولاستيعاب فيضها المعنوي والروحي والأخلاقي والفلسفي.

ينظر العالم المثقل بالأشياء إلى غزة على أنها منطقة حرب تقيم فيها مجموعة بشرية متدربة على القتال وتحمل فكرة معادية.. لا يفهم هذا العالم الذي غرق في «التفاهة» والذي يعاني فراغا تحت سطوة اللامعنى؛ كيف «يحيا» أهل غزة، وكيف تكون فلسفة الحياة مختلفة تماما عندهم عن عادة «العيش»، وكيف يخترق مفهوم الزمن في غزة الزمن الدنيوي ليفتح مباشرة ودون توقف على عالم الآخرة.

إن الخاسرين في معركة الحياة هم من يخسرون أنفسهم حين يتنازلون عن شرفهم وكرامتهم وحين يقبلون بالمذلة والمهانة، ولن ينعموا بمعنى الحياة حتى وإن استمروا في كينونتهم الجسمانية حيث لا يختلفون مع بقية الكائنات غير العاقلة في خضوعهم لقانون العيش وفي فقدانهم الإرادة والحرية والكرامة.

إن كثيرين لا يفهمون كيف يُقْدم المقاوم على عدوه بكل تلك الشجاعة في معركة غير متكافئة القدرات المادية وغير متناسبة في الجغرافيا وفي حجم الدعم الدولي، لا يفهمون كيف يستقبل المقاوم الموت مبتسما وكيف يودع أحباءه دون عويل، لا يفهمون أن ذاك المقاوم ينتمي إلى عالم المعنى رغم أنه يقيم على أرض ويتحرك في زمن ويمشي في الناس، ولكن الأرض عنده ليست مجرد جغرافيا، إنها أمه التي تحضنه وهي التي تمده بالشوق للحياة فيها وبها، فلا فرق عنده بين أن يحيا عليها أو أن يحيا فيها فلن تُفقده أي قوة باطشة عشقه لتلك الأرض ولن يقدر أحد على إخراجه منها حتى وهو يقدّم جسده ثمنا في طريق تحريرها.عربي 21

copy short url   نسخ
21/11/2023
5