+ A
A -

ما إن أخذ العالم يلتقط أنفاسه للتو بعد سلسلة الهزات الاقتصادية العنيفة التي كان أبرزها جائحة كورونا أو كوفيد 19 فالحرب الروسية-الأوكرانية، ثم تسجيل التضخم معدلات مرتفعة، وما إن بدأت عجلة الاقتصاد تدور، والركود يرحل، والتضخم يتراجع، حتى شنت إسرائيل حربا ضروسا على قطاع غزة، تأكل الأخضر واليابس، وتهلك الحرث والنسل، وتلقي بظلالها القاتمة على الاقتصاد العالمي.

أهل غزة يعيشون الآن مأساة أكبر من طاقة البشر، ومعاناة تفوق كل خيال، يتألمون آلاما لا يتحملها إلا من تعلقت قلوبهم بالله، وآمنوا به إيمانا غير منقوص، فجرائم الصهاينة لا يتحمل الأشخاص الطبيعيون مشاهدتها في فيديوهات، فما بالنا بفظاعة ما يتحمله ضحاياها، هذا أب معه مطرقة يكسِّر بها ركام بيته الذي قصفته الطائرات الإسرائيلية، يسألونه علامَ تبحث؟ فيجيب: عن جثث أبنائي الأربعة الموجودة تحت الأنقاض، وذاك رب أسرة يجمع أشلاء أفراد أسرته في كيس ويجهزها للدفن، وتلك ممرضة في المستشفى تُفَاجأ بأن من وصل إليها من جرحى يحتضرون هم زوجها وابنتها وابنها، ويفارقون الحياة بين يديها، وصبية في مقتبل العمر تنتحب وتقول: قتلوا سيدي وستي وأبي وأمي وإخواني وأعمامي و«مضلش» لي أحد، وطفلة لا يتجاوز عمرها الخمس سنوات تصرخ في هلع بعد أن شاهدت أمها بين الموتى وتقول: هذه أمي عرفتها من شعرها، وآلاف الجرائم بهذه البشاعة ترتكبها إسرائيل، لم تنج منها حتى الأجنة في بطون أمهاتهم، اختلطت أشلاء الشهداء بركام البيوت المأهولة بالسكان، جراء القصف الوحشي الذي تنفذه طائرات إسرائيل بلا هوادة ورحمة، عرف أهل غزة أزمات الطاقة والماء والغذاء وتعايشوا معها، ولكن لأول مرة يعرفون أزمة أكفان، فالأكفان لم تعد تكفي لعدد قتلاهم.

تخيل أن كل ما يتمناه الأحياء منهم كسرة خبز أو شربة ماء لأطفالهم الذين يتضورون جوعا، تخيل أطفالا يشربون من ماء البحر المالح لعدم وجود ماء شرب، هل سأل أحد نفسه هل يمكن أن ينام وهو ينتظر الطائرات التي ستحول بيته إلى حطام وأبناءه إلى أشلاء؟ هذا ليس من باب الأساطير ولا الخيالات، إنما واقع معاش في غزة الآن!!، سيدات غزة يغسلن الملابس بماء البحر، ويستخدمن الرمال للتنظيف بدل الصابون!!.

ما يتعجب له العالم أن أهل غزة أظهروا عزة نفس وشموخا، وإيمانا قويا لم يألفه قبلهم أحد من العالمين، الأطفال منهم قبل الكبار، فلم يطلبوا من العرب والمسلمين التدخل، ولم يطلبوا حتى مساعدات من ماء وغذاء، لم يقنطوا من رحمة الله، فقد أيقنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ومع كل غارة وكارثة تحل بهم، ونازلة تنزل عليهم لا ينطقون إلا بـ «الحمد لله» ولم يصُبُّوا اللعنات على أحد، حتى على الجناة الصهاينة، ولكنهم أعطوا العالم درسا في جميل الصبر، وقوة التحمل، وعظمة الإيمان بالله وبعدالة قضيتهم، والتمسك بالوطن، وبذل النفس والنفيس من أجله، والتعامل مع الجوع العطش بمواصلة الليل بالنهار صوما، والشجاعة في مواجهة الموت، فالناس حول العالم شاهدوا أطفال غزة يكتبون أسماءهم على أجسادهم استعدادا للموت، كي يتم التعرف عليهم حال استشهادهم، وشاهدوا طفلا يلقن أخاه الأصغر الشهادة وهو يحتضر، وفي المقابل شاهدوا الصهاينة وهم ينبطحون أرضا مذعورين عندما تنطلق صافرات الإنذار، الرجال قبل النساء، والكبار قبل الصغار.

من المؤكد أن الحياة غالية، وأن كل إنسان لا يمكن أن يصبر في الظروف العادية إذا حرم من مقومات الحياة إلا إذا كان هناك ما هو أعز على نفسه وأغلى من الحياة عينها، والإنسان لا يمكن أن يتحمل رؤية أطفاله وهم يعانون آلام الجوع، أو يتعرضون للموت إلا إذا كان هناك ما هو أعز منهم على نفسه، إنه الوطن الذي يرفضون فكرة التهجير منه.

يجمع خبراء كثيرون على أن هذه الحرب لن تمر كما مر غيرها من عشرات الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل ضد أصحاب الأرض، وإنما ستخلف آثارا اقتصادية سلبية تتجاوزها إلى دول الجوار، وتمتد إلى ما وراء البحار، وأول المتضررين الاقتصاد الاسرائيلي القوي.

ولأتطرق إلى موضوع الاقتصاد، ففي العام الماضي بلغ إجمالي الناتج المحلي الإسرائيلي نصف تريليون دولار، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف لكيان عمره 70 عاما، وعدد سكانه لا يتجاوز 6:5 مليون نسمة، على مساحة 27 ألف كيلو متر، ليس بها موارد طبيعية أن يحقق هذا الرقم القياسي؟

الإجابة عن هذا السؤال تكمن في توغل اقتصاد إسرائيل الهش مع الاقتصادات الغربية القوية، والتمدد في إفريقيا وحتى في بعض الدول العربية، دخلت في شراكات واتفاقيات مع دول إفريقية للاستئثار بصناعة الألماس، كما عقدت شراكات مع أميركا والصين وألمانيا لصناعة الرقائق الإليكترونية والتكنولوجيا الفائقة، فضلا عن الصناعات الأخرى كالملابس، وأغرقت أسواق العالم بما فيها العربية بصناعاتها التي يتم تسويقها باسم أميركا ودول الاتحاد الأوروبي، فضلا عن ابتزاز الدول للحصول على معونات، فقد حصلت من ألمانيا حتى الآن على مائة وأحد عشر مليار دولار تعويضا عما تسميه المحرقة، هكذا تبني إسرائيل اقتصادا قويا، ولكن حربها على غزة كبدتها خسائر فادحة، ففي بداية الحرب اعترفت بأن تكلفة اليوم الواحد تبلغ 270 مليون دولار، وبعد أسبوع 300 مليون، والآن تلامس التكلفة اليومية 800 مليون دولار، ويوم الأحد الخامس من هذا الشهر نقلت صحيفة كالكاليست الاقتصادية الإسرائيلية عن وزارة المالية أن تكلفة الحرب على غزة تبلغ 200 مليار شيكل «51 مليار دولار»، كما خفض البنك المركزي الاسرائيلي توقعاته للنمو إلى 2:5 % بعد أن كان 6 %، وتوقع خبراء الاقتصاد انخفاض الناتج المحلي بنسبة 15 %، وتوقفت السفن التي كانت تحمل صادرات إسرائيل إلى العالم، لتحل محلها السفن التي تحمل يهودا قرروا العودة إلى أوطانهم الأصلية.

وإذا كانت إسرائيل نجحت في بناء اقتصادي قوي، ففي المقابل عجزت 57 دولة إسلامية جذورها ضاربة في عمق التاريخ، على مساحة 32 مليون كيلو متر مربع، وعدد سكان يبلغ 2 مليار نسمة عن بناء اقتصاد مماثل، وعن إبرام شراكات اقتصادية ديناميكية فيما بينها!!.

أتمنى لنا كعالم إسلامي أو على الأقل عربي أن نستفيد من الخسائر الاقتصادية التي منيت بها إسرائيل جراء هذه الحرب، وأن تكون لنا وقفة مع النفس، أو نقطة ومن أول السطر، أو حتى نقلب صفحة الماضي لنبدأ صفحة جديدة ونبني اقتصادا قويا يناهض اقتصادات الدول الكبرى، وأن يكون لدينا من الوعي بأن أقصر الطرق إلى بناء اقتصاد قوي طريق الصناعة المتطورة، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وتوقيع اتفاقيات اقتصادية مع كل دول العالم، والعاملة معها بالمثل، وإنشاء كيانات صناعية واقتصادية متعددة الجنسيات وعابرة القارات.

كما أتمنى أن تلهم حياة التقشف التي يعيشها أهل غزة الشعوب العربية على مستوى الأفراد والأسر والمؤسسات إعادة النظر في طرق وأساليب الإنفاق، وترشيده قدر الإمكان، فغالبية الأسر لو تأملت في بيوتها، وحجم نفقاتها لدهشت من كم المشتريات التي تحولت إلى خردة تشكل أزمة في كيفية التخلص منها.

بقلم: د. بثينة حسن الأنصاري خبيرة تطوير التخطيط الاستراتيجي والموارد البشرية

copy short url   نسخ
07/11/2023
265