أحيانا توفر لك ظروف العمل تسهيلات تظهرك بمظهر أكبر من إمكاناتك الحقيقية أو تضاهيها، فيصدق فيك المثل الشعبي «من برة هالله هالله.. ومن جوة يعلم الله».
فمن وارد ذاكرتي حينما كنت أعمل لدى إحدى المؤسسات الصحفية أنها كانت تؤمن لي معاشًا ضئيلة جدا، على أنها توفر لي سائقا هنديا من وإلى مقر العمل. ما يجعلني أبدو كابنة رجل أعمال ثري.
كان الرجل دمثًا خلوقًا لا يتأخر عن موعده يوماً، وحدث أن باهتني مرة وأنا جلوس بالمقعد الخلفي فطلب مني قرضًا بملغ يوازي ربع راتبي. ورغبة منه في استعطاف قلبي لشحذ همتي للدفع، راح يطلعني على صورة على هاتفه، فراودتني نفسي على أني سأشاهد منظرًا مؤثرًا لطفله الكسيح أو زوجته طريحة بفُرش المَشفى كونها بحاجة لعملية جراحية فورًا، فأغلبنا معتادون على قصص سائقي عربات الأجرة المتمرسين في اطلاعك على تكلفة روشتات الأطباء الباهظة، والتي يعجزون عن دفع أثمانها.
ولكم هالني منظر الصورة على الجوال، فلقد كانت لقصٍر منيف، جدرانه من الفسيفساء وأرضيته من الرخام، أما الشرفات فتطل على مساحات شاسعة من الخَضَار لجنة فيحاء. كل هذا وأنا من هول الصدمة في سكون تام، فأوضح لي سائقي أنه بحاجة لقرض لاستكمال مصروفات قصره بمدينة كييرلا الساحلية بالهند أم العجائب!
نسيت السائق تمامًا ورحت أتأمل حالي، فأنا كنت أقطن بشقة- قبيل مطالعة صورة القصر كنت أجدها جد صغيرة، أما بعيد الصورة، فصرت أراها جد حقيرة- في بناية بت أخجل من رؤية سائقي لي وأنا أخرج منها كل يوم لأذهب لعملي، فهي حُجة دامغة تقطع بكوني أقل منه.
تفكرت مليًا في الأمر الذي أطاح بمعتقداتي رأسا على عقب. تيقنت من أن البعض تَمَرس في الانحناء ليعلو، على أن ثمة آخرين مستمسكون بالشموخ الزائف، سواء بمرتبة اجتماعية صماء ورثوها رغم أنها تعيقهم عن أداء مهام أو وظائف متدنية لكن مربحة.. أو وظائف تضعهم في مستويات اجتماعية تحول دون تحقيقهم لوضع مادي مريح، عوضًا عن أنها تمنعهم من الانحناء للاقتراض، فهم مجبولون على التعفف، تشلهم مكانتهم الاجتماعية عن الإفصاح عما ينقصهم، لا يجرؤون على التفوه بعجزهم، فيما آخرون يتقوتون من هذا العجز يتربحون من الإعاقات، يتسولون من العاهات، فيتحرون بتر يسراهم كون ذلك سيعود بالوفير على يمناهم.
دفعني ذلك لمعرفة قيمة راتب سائقي، فلما تأكدت أن راتب يفوق راتبي ويعلوه، صعُبت عليّ نفسي، بكل ما تعنيه الكلمة، وبت على يقين في ضرورة هجر مواريثي الفكرية البالية تلك التي كانت تضع المُدرس والسائق في مرتبة أقل من الصحفي.. كوني أعيش في مجتمع يصنف المدرس كما الطبيب، المهندس والمفكر في أعلى السلم المادي والاجتماعي. على أنه لا يزال يصنف السائق كحرفة مهمشة اجتماعيًا على أنه مقدر مادياً.
في سباق العدو في ماراثون الحياة، أعترف أني لن أسعى لمرتبة ذهبية بالتسول كوني على ثقة من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر».
على أني صدقًا وجدتني مذ ذاك اليوم أكثر إشفاقا لكل يد عاملة، لمندوبي المبيعات سيما «الشركة الألمانية لمكافحة الحشرات» والتي كنت أخوض مع الخائضين في التفاكه على العاملين فيها وعلى سواها، فبت أشد صبرا على إلحاحهم، على العاملين في شركات الدعاية والإعلان الواقفين في المولات لتوزيع «الفلايرز»، على موظفي الاتصالات المنوط بهم التحدث لفئات مختلفة ومستويات متباينة من البشر. بل صرت أشجع أبنائي على العمل صيفًا، على البيع والشراء، على عدم التكبر على بقشيش نالوه من عرق تعبهم كون ذلك أجدى من تسولهم أو اعتمادهم على مكانة ذويهم.. خشية وقوعهم ضحايا وهم أنه من العادي والطبيعي أن يمكثوا بالساعات مسجونين مع هواتفهم النقالة لأن هناك من سيتكفل ببناء قصورهم.

بقلم : داليا الحديدي