+ A
A -

ترتكب إسرائيل الآن جريمة نكراء ضد الشعب الفلسطيني الأعزل الذي يعيش في ظل الاحتلال مقموعا، وعن توفير مقومات حياته ممنوعا، وكل ذنبه المطالبة بحقوقه المغتصبة، مثله مثل كل شعوب الأرض التي استردت حقوقها من المستعمر، فلم يعد على ظهر الكوكب الآن شعب لم يحصل على حقه المسلوب غير الشعب الفلسطيني، الذي يتعرض حاليا لقصف وحشي يهلك الحرث والنسل، لا يفرق بين مدنيين ومقاومين، ولا بين رجال ونساء، ولا بين أطفال صغار وشيوخ وكبار، وبلغ عدد الضحايا من أهل غزة حتى صباح السبت 14 أكتوبر، 2250 قتيلا، بينهم 724 طفلا و458 امرأة، ولا شك أن العدد في ازدياد بين ساعة وأخرى، فضلا عن استهداف البنية التحتية رغم هشاشتها، وهدم المدارس والمؤسسات التعليمية رغم قِلَّتها، وتدمير محطات توليد الكهرباء وشبكات المياه والهواتف لشل قدرتها، ولم تسلم مكاتب المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة كالأنروا واليونيسيف المعروف عنها قلة حيلتها، مع أنها تعمل ضمن البرامج الإنسانية، الأمر أجبر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش على التنديد باستهداف المدارس والمراكز الصحية والعيادات، مناشدا الضمير العالمي ليستيقظ على وقع الكارثة، مؤكدا أن المستشفيات أصبحت عاجزة عن استقبال المرضى، ولا بد من تجنب ما يؤدي إلى تفاقم الكارثة أكثر مما هي عليه الآن، حيث لا غذاء ولا ماء ولا مناطق إيواء.

ولكي نفهم ما يجري في فلسطين، وخلفيات هذا الحدث المذهل، نجد لزاما علينا أن نعرِّج قليلا على التاريخ، ففي أواخر القرن التاسع عشر انعقد المؤتمر الصهيوني الأول وانتهى إلى إقامة دولة صهيونية على أرض فلسطين العربية، وبدأ التنفيذ من خلال الانتداب البريطاني الذي شجع اليهود على الهجرة إلى فلسطين، وأخذ المهاجرون بدعم من بريطانيا وأمريكا ومعهما كل الدول التي بها يهود ينفذون البنية التحتية السياسية والدعائية للدولة اليهودية، حتى تم إعلانها في عام 1948، ثم استكملت إسرائيل احتلال بقية الأرضي الفلسطينية، أي الضفة الغربية والقدس الشرقية خلال عدوان 1967، ضاربة بمبادئ ترسانة القوانين الدولية وقرار التقسيم وغيره من القرارات عرض الحائط.

ومنذ ذلك التاريخ اتبع العرب كل الوسائل السلمية واللجوء إلى المنظمات الدولية لاسترداد الحقوق الفلسطينية، ولكن مساعيهم باءت جميعها بالفشل، جراء تعنت المحتل الإسرائيلي ومواقفه المتحجرة، فكان اللجوء إلى المقاومة خيارا وحيدا للفلسطينيين، ففي قوانين الطبيعة لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد في الاتجاه، والمقاومة تبدأ عادة شديدة الضعف، ثم تقوى شيئا فشيئا إلى أن يشتد عودها كما عليه حال المقاومة الفلسطينية الآن، وذلك لعدة عوامل منها الإيمان بالقضية بينما المحتل ليس على نفس الدرجة من الإيمان، لأنه في قرارة نفسه يعرف أنه مغتصب حق الغير، ثم الحاضنة الشعبية المؤيدة والمستعدة للتبعات.

ويقول التاريخ إنه مع الوقت تقوى شوكة المقاومة وتصل بالمحتل إلى وضع تزيد فيها التكلفة الاقتصادية للاحتلال عن عوائده، وأكبر دليل على ذلك أن تكلفة إسرائيل من طوفان الأقصى ليست بالقليلة، بدأت بهدم رجال المقاومة لأجزاء من الجدار العازل لقطاع غزة والذي كلف إسرائيل حوالي ملياري دولار، ثم وقف الاستيراد الفلسطيني منها، ففلسطين ثالث أكبر مستورد من إسرائيل، بما قيمته 4,5 مليار دولار في السنة، وهبوط سعر الشيكل عملة إسرائيل مقابل الدولار، الأمر الذي دفع البنك المركزي الإسرائيلي إلى طرح 15% من الاحتياطي النقدي لإنقاذ الشيكل من الانهيار، وإصابة القطاع السياحي بالشلل التام، والأهم من هذا كله الخسائر الفادحة في الأرواح والعتاد العسكري، كما أن الخسائر التي لحقت بقطاع غزة هي الأخرى تعد بالمليارات، فلا تقل عن خسائر ناجمة عن زلزال مدمر كالذي وقع في تركيا وسوريا، أو فيضان قوي كالذي اجتاح درنة الليبية، لكن الفرق كبير، فأهل غزة تعودوا على مثل هذه الخسائر وتعايشوا معها، أما الإسرائيليون فلا يستطيعون تحمل أية خسائر تذكر، خاصة في الأرواح، ولذلك فإن طوفان الأقصى سوف يجبر الكثير منهم على ترك فلسطين والعودة إلى بلادهم الأصلية.

لجأت الفصائل إلى المقاومة مضطرة، لأن الشعب الفلسطيني لم يحصل على الحد الأدنى من حقوقه المشروعة، في حين تم تقديم الكثير من التنازلات لإسرائيل، منها الاعتراف بها كدولة، ثم التطبيع، ففتح سفارات ومكاتب تمثيل، وإبرام اتفاقيات تجارية، وتعاون اقتصادي على أعلى مستوى في مجالات عديدة كالطاقة والتكنولوجيا، دون أن تعيد ولو شيئا يسيرا من الحق الفلسطيني، ودون أن تنفذ ما جاء في مؤتمر مدريد الذي عقد في بداية تسعينيات القرن الماضي برعاية أميركية روسية، ودون التزام باتفاقية أوسلو التي وضعت إطارا للحل، ودون تنفيذ مبادرة السلام العربية، وعدم الاعتداد بمبدأ الأرض مقابل السلام، أو الاعتراف بحل الدولتين، ثم التوغل الاستيطاني في مناطق السلطة الفلسطينية، وفي الفترة الأخيرة أخذ الاهتمام الأكبر لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو هو توسيع دائرة العلاقات مع أطراف عربية، دون التطرق لجوهر القضية الفلسطينية، فضلا عن وجود حكومة متطرفة ينادي بعض أعضائها بحرق القرى الفلسطينية، فكان ما هو كائن الآن، تحرك طوفان الأقصى لإحياء قضية 15 مليون فلسطيني في الداخل، وفي الدول المجاورة وحول العالم.

وفي التقدير الموضوعي لن ينتهي الصراع العربي الإسرائيلي إلا بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967وعاصمتها القدس الشرقية.

بقلم: د. بثينة حسن الأنصاري خبيرة تطوير التخطيط الاستراتيجي والموارد البشرية

copy short url   نسخ
16/10/2023
85