للمرة الثانية في غضون أسبوع واجهت الولايات المتحدة الأميركية موقفاً نادراً، منذ أن نشأت كأمة تكونت من هجرات قادتها الرأسمالية الأوروبية، لاسيما البريطانية، للاستثمار في أرضها البكر وحل أزماتها على أنقاض الهنود الحمر سكان البلاد الأصليين، وتحولت أميركا إلى قوة عظمى وإمبراطورية بعد الحرب العالمية الثانية. وتمثل هذا الموقف النادر في وقوفها وحيدة في مجلس الأمن الدولي في مواجهة جميع الدول الأعضاء في المجلس الذين صوتوا تأييداً لمشروع القرار المصري الفلسطيني لإبطال قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بمدينة القدس عاصمة لدولة الكيان الصهيوني العنصري المحتل لفلسطين والتي تسعى إلى إنهاء وجود الشعب العربي في فلسطين وشطب حقه في وطنه، على غرار ما حصل للهنود الحمر في أميركا.
وإذا كانت المندوبة الأميركية قد استخدمت الفيتو لمنع صدور قرار يلغي إعلان ترامب، إلاّ أن ذلك لا يعني انتصاراً لأميركا، بل هو هزيمة مدوية للسياسة الأميركية التي تلقت صفعتين في غضون أسبوع، ولم يسبق أن تعرضت أميركا لمثل هذا الموقف في مجلس الأمن الذي كانت معروفة فيه بأنها الدولة المهيمنة القادرة على صياغة المشاريع وإصدار القرارات التي تخدم السياسات الصهيونية في فلسطين وإصدار القرارات التي تصب في مصلحة السياسة الأميركية، كما لم يسبق أن عارضت مشاريع قرارات كانت تقدم لإدانة سياسات الاحتلال الصهيوني وتؤيد حقوق الشعب العربي الفلسطيني، دون أن تكون هناك العديد من الدول التي تدعم الموقف الأميركي، لاسيما بريطانيا المعروفة بأنها أكثر الدول قرباً من أميركا، لكن ما حصل أن المندوب البريطاني خذل أميركا وصوت ضد قرار ترامب في المرتين.
لكن الأسئلة التي تطرح في هذا السياق هي:
- ماذا يعني أن تواجه الولايات المتحدة العزلة في مجلس الأمن؟
- وما انعكاس ذلك على كيان الاحتلال الصهيوني؟
واستطراداً كيف يمكن الاستفادة من هذا الموقف الدولي لتعزيز نضال الشعب العربي في فلسطين؟
أولاً: أن تواجه واشنطن العزلة الدولية فهذا دليل واضح على تراجع هيبة أميركا وضعف تأثيرها الدولي، وانكشاف وانفضاح سياستها المتعارضة بشكل صارخ مع القوانين والمواثيق الدولية، والداعمة لكيان الاحتلال الصهيوني الذي قام ويقوم على العدوان والقمع والإرهاب والاستيلاء على أرض فلسطين وممارسة سياسات التمييز العنصري ضد الشعب العربي الفلسطيني.
والملاحظ أن هذه العزلة الأميركية التي تسببت بها سياسات ترامب الخارجية تسببت في إحداث تصدع في علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها الغربيين الذين عارضوا ووقفوا بقوة ضد سياسات ترامب لإلغاء الاتفاق النووي الذي وقعته مجموعة الخمسة زائد واحد مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية وصادق عليه مجلس الأمن الدولي، كما أعربت العديد من الدول الأوروبية عن انتقادها لسياسة فرض العقوبات ضد روسيا والتي تضر بمصالح هذه الدول وخصوصاً ألمانيا.
واليوم تشعر الدول الغربية بأن قرار ترامب يقود إلى سد الأفق أمام التسوية ويدفع إلى تفجير الاستقرار في المنطقة والعالم ويجعل الشعب الفلسطيني أمام خيار وحيد، وهو اللجوء إلى الانتفاضة والمقاومة، وهو أمر لا يخدم مصلحة كيان الاحتلال الإسرائيلي الذي تدعمه.
على أن هذه السياسة الأميركية التي تضع أميركا في حالة من العزلة الدولية إنما تعكس حالة التخبط والأزمة التي تشهدها سياسة الولايات المتحدة نتيجة فشل حروبها لإعادة تعويم هيمنتها على العالم، وتراجع نمو اقتصادها وغرقها في أكبر مديونية عرفتها دولة في العالم؛ حيث ناهز الدين الأميركي الـ 20 تريليون دولار، فيما عجز الموازنة يبلغ 650 مليار دولار، وهذه الأزمة هي التي أدت إلى فوز ترامب المفاجئ في الانتخابات ونشوء الأزمة السياسية في أميركا. وهناك اعتقاد بأن إقدام ترامب على الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال الصهيوني إنما يندرج في سياق سعيه لإرضاء اللوبي الصهيوني في أميركا والذي يتمتع بنفوذ وتأثير كبيرين في الكونغرس بهدف كسب تأييده ودعمه في مواجهة خصوم ترامب وحمايته من احتمال تعرضه لمحاكمة، على خلفية العلاقة مع روسيا في الحملة الانتخابية، قد تؤدي إلى إقالته.
ثانياً: إن كيان الاحتلال الصهيوني، وإن كان يعرب قادته عن سرورهم لقرار ترامب الذي يحقق أحلامهم في تهويد القدس والتمهيد لبناء الهيكل المزعوم مكان المسجد الأقصى، إلاّ أن نتائج القرار جاءت في غير مصلحته، فعدا عن تفجر الانتفاضة الثالثة وعودة صور الانتهاكات والاعتداءات الصهيونية الوحشية ضد الأطفال والشيوخ والنساء لتحتل شاشات التلفزة العالمية، فإن القرار الأميركي أدى إلى إسقاط كل الجهود التي بذلتها السياسة الإسرائيلية على مدى عقود أعقبت توقيع اتفاق أوسلو لتلميع صورتها وقلب حقائق الصراع، وأعاد التضامن والتأييد الدولي للقضية الفلسطينية من أوسع الأبواب وعلى نحو غير مسبوق في تاريخ الصراع، فلأول مرة تحصل تظاهرات في أغلب دول العالم مؤيدة للقضية الفلسطينية ويتزامن معها مواقف لمعظم الدول منددة بقرار ترامب.
وهذا يعني أن ما حصل يشكل أيضاً صفعة كبيرة للسياسة الصهيونية وإعادة الصراع العربي الصهيوني إلى البدايات، إلى نقطة الصفر، مع فارق أن أميركا الداعم الأول لكيان الاحتلال الصهيوني تراجع نفوذها وتأثيرها وقوتها مما ينعكس سلباً على الكيان الصهيوني الذي يستمد قوته من القوة الأميركية.
ثالثاً: إن الاستفادة من هذا المناخ الدولي الرسمي والشعبي، والمترافق مع عودة النهوض الشعبي العربي الإسلامي والمسيحي، الداعم للنضال الشعب الفلسطيني إنما يكون عبر الخطوات التالية:
1- وضع حد نهائي لسياسة المراهنة على المفاوضات باعتبارها هي الخيار الاستراتيجي، والعودة إلى اعتماد المقاومة المسلحة والانتفاضة الشعبية كخيار استراتيجي في مواجهة الاحتلال، وأي وسيلة أخرى كانت، المفاوضات أو الحركة السياسية والدبلوماسية، إنما يجب ألا تكون على حساب خيار المقاومة والانتفاضة سلاح القوة الوحيد الذي تملكه الشعوب في مواجهة المحتلين.
2 - توحيد الطاقات والجهود الفلسطينية على هذه القاعدة المذكورة آنفاً، والعمل على تشكيل قيادة موحدة لدعم الانتفاضة وتزخيمها وتأمين استمرارها باعتبارها هي الرد العملي لإسقاط قرار ترامب وإحباط الرهان الأميركي الصهيوني على تراجع الانتفاضة والتظاهرات الشعبية العربية والدولية لفرض قرار ترامب وتحويله إلى أمر واقع والبناء عليه لاستكمال مخطط تصفية القضية الفلسطينية.
3- تصعيد الضغط الشعبي في الدول العربية لفرض إلغاء الاتفاقيات مع الكيان الصهيوني ووقف كل أشكال التطبيع والعلاقات المقامة معه، وتفعيل مكتب المقاطعة العربية للكيان الصهيوني لإعادة فرض العزلة عليه، وفي هذا السياق فإن استمرار الانتفاضة وتصاعدها يسهم في تحقيق هذا الهدف الوطني والقومي.

بقلم : حسين عطوي