+ A
A -

لطالما سمعنا عن الشجاع الذي لا يهاب المخاطر، ويسعى قدماً صوب أهدافه دون أن يمنح الاستسلام سبيلاً إلى قلبه. ذاك الشخص الذي لا يقبل الهزيمة مهما كان الثمن، فيواصل النهوض، حتى لو سقط، ويظل يتقدم إلى الأمام مهما اعترضته العقبات والصعوبات. لكن في المقابل لا بد أنك سمعت المثل القائل: «الهروب نصف الشجاعة»، فأيهما أصح؟

تخيل ملاكمين في حلبة يتصارعان على نيل لقب بطولة محلية، ونحن الآن في الجولة السابعة بينما يبدو واضحاً أن أحد الطرفين يسيطر كلياً على أجواء المباراة، بينما يعاني الآخر من إصابة بليغة غير أنه لا يزال مصراً على تحقيق الفوز.

قد يبدو الطرف الأضعف بصورة المقاتل الشجاع الذي بالتأكيد سيحترمه الجمهور على قراره الجريء ذاك. لكن بعيداً عن الأعين والهتافات الحارة التي تشجع المقاتل على مواصلة المعركة، ينظر مدرب محنك إلى الأمر من زاوية أخرى أكثر عمقاً.

يرى المدرب بعين الصقر الخبير أن المجازفة بحدوث عاهة مستدامة تحرم صاحبها من مسيرته الرياضية إلى الأبد، هو إهدار لكل الجهد الذي بذله لاعبه خلال السنوات المنصرمة. جهد كان الهدف الأكبر منه هو الوصول إلى بطولة العالم، غير أن ما حدث في هذه المباراة من إصابة شديدة يمكن أن يحرمه هذا الحلم في حال استكمل اللعب بدافع من إصراره وشجاعته النادرة.

صحيح أن المدرب يحترم شجاعة لاعبه، لكنه يدرك حقيقة مهمة في الوقت ذاته؛ ألا وهي أن الانسحاب في هذه الحالة بالتحديد هو عين الشجاعة والحكمة، فاحتمالات الفوز ضئيلة للغاية في مقابل احتمالات حدوث إصابة مستدامة تحطم مسيرة اللاعب. وحتى لو فاز فإن فوزه سيترتب عليه أيضاً إصابة كبيرة قد لا يشفى منها، ما يعني أن القرار المنطقي والحكيم في هذه الحالة هو الانسحاب من المواجهة لا خوفاً ولا استسلاماً، بل ذكاءً وحفاظاً على ما هو أجمل.

في بعض الحروب التاريخية، فاجأ قادة عرب خصومهم بانسحاب تكتيكي يبدو انهزاماً للوهلة الأولى، لكنه في الحقيقة عين الحكمة والدهاء. ليس كل هروب من ساحة المعركة دليلا على الفشل والهزيمة، وليس كل إقدام شجاعة فبعض أنواع الإقدام لا تعدو كونها مجازفة رعناء ذات نتائج وخيمة.

إن إصرارك على خوض معركة خاسرة يبدو شجاعة، لكنه قد يكون في بعض الأحيان غباء ومجازفة بأرواح أناس كثيرين دون أدنى قيمة. هذا لا يعني الاستسلام بالطبع، خصوصاً إذا كنت تدافع عن قضية إنسانية، لكن التراجع قليلاً في مثل هكذا حالات يمنحك الفرصة لإعادة حساباتك، وتقدير الموقف بصورة أعمق، ومن ثم العودة بقوة أكبر.

في العلاقات العاطفية على سبيل المثال أيضاً، ليس من الحكمة أن تواصل المشوار مع شخص لا يعطيك أدنى اهتمام رغم كل ما تقدمه من أجله، ويستغل مشاعرك لأغراضه الشخصية دون أن يكلف نفسه عناء التضحية والعطاء. إن انسحابك من هكذا علاقة في مثل هذه الحالة هو حفاظ على أجمل ما تملك؛ ذاتك وكرامتك.

بعض الحروب ليس مقدراً لنا أن ننتصر فيها، لأنها ليس فيها منتصر، لذا يفضل الهروب بدلاً من خوضها وتدمير كلا الطرفين أو خروجك منها بخفي حنين. بعض الحروب يمكنك أن تنتصر فيها عندما تهرب من مواجهة دموية غير عادلة، وعندما تتراجع قليلاً لتدرس احتمالاتك، أو تدير ظهرك لشخص يحاول استفزازك فتوجه له ضربة قاضية دون أن ترفع إصبعاً واحداً في مواجهته.

لهذا فإن المعيار الأول والأخير هو التفكير المنطقي وترجيح كفة الميزان. لا تخض حرباً خاسرة فليس في ذلك شجاعة، ولا تعتقد أنك ستحصل على كل شيء تريده بالإصرار، فأحياناً كثيرة يمكنك أن تفقد شخصاً لمجرد أنك تلاحقه من مكان لآخر، وتخسر حب إنسان لأنك تصر على الالتصاق به.

ما هو لك سيكون لك دون أن تستميت في الوصول إليه. فاترك الأشياء والناس ينجذبون إليك من تلقاء أنفسهم. لا داعي للاستماتة في سبيل إرضاء أحد، لأن بعض الهروب والتخلي هو عين الحكمة والذكاء، ويضمن لك نتيجة إيجابية لن تحصل عليها إن فعلت عكس ذلك.

copy short url   نسخ
02/10/2023
110