توصل مجلس نواب الشعب أخيراً إلى انتخاب رئيس جديد للهيئة العليا للانتخابات، وهو ما سيفتح الباب أمام تنظيم الانتخابات البلدية والمحلية المقبلة في موعدها (مارس 2018). وكان هذا الاختيار نتاجاً لتوافق ضم الحزبين الكبيرين في البلاد: حركة النهضة وحزب نداء تونس، بالإضافة إلى شريكهما الثالث حزب الاتحاد الوطني الحر. ولم يكن هذا التوافق لاختيار رئيس جديد لهيئة دستورية أمراً عارضاً أو طارئاً بقدر ما هو تعبير عن نمط الممارسة السياسية التي أصبحت تطبع المشهد السياسي التونسي منذ بداية التحول الديمقراطي سنة 2011.
فرغم ما تميّزت به الحملات الانتخابية سنة 2014 من فرز حاد وصراع ثنائي بين التيارين الأهم في البلاد، أعني التيار الإسلامي الديمقراطي الذي تمثله حركة النهضة، والتيار الدستوري الذي اجتمعت رموزه حول الرئيس الباجي قائد السبسي، إلا أن مرحلة ما بعد الانتخابات شهدت خيارات مختلفة اقتضتها ضرورات المصلحة الوطنية وواجبات إدارة الدولة لتتشكل بعدها الحكومة الأولى برئاسة الحبيب الصيد والتي ضمت الحزبين الأساسيين: النهضة ونداء تونس، بالإضافة إلى حليفين سياسيين صغيرين وحتى بعد إقالة الحبيب الصيد وتكليف يوسف الشاهد بتشكيل حكومة جديدة أُريد لها أن تكون حكومة وحدة وطنية فقد ظل التوافق هو الذي يحكم اختيار المسؤولين وإسناد الحقائب الوزارية المهمة وهو نفس الخيار الذي ظل يحكم إصدار القوانين الكبرى في المجلس النيابي ولعل أهمها قانون المصالحة الإدارية الذي حرص رئيس الجمهورية على تمريره من خلال الاتفاق مع حلفائه السياسيين وتحديداً حركة النهضة.
ويمكن القول إن فكرة التوافق السياسي هو خيار تونسي محض أملته الظروف السياسية للبلاد والتعامل بواقعية مع المشهد الحزبي، وهو ما مكّن البلاد من مجاوزة هزات أو خلافات حادة كان يمكن أن تؤثر سلباً على المسار الديمقراطي الناشئ، فميزة الخيار السياسي التونسي هو قدرته على خلق أشكال من الحوار وبناء تحالفات بين قوى سياسية مختلفة ومتناقضة وأحياناً متصارعة بعيداً عن منطق الإقصاء والإلغاء المتبادل، فلا يمكن ضمان استمرارية العملية السياسية في البلاد ومنع انحرافها نحو توجهات سلطوية استبدادية غير الحفاظ على توافقات سياسية تحفظ للقوى السياسية وجودها وتضمن في الوقت ذاته تواصل الجهد الحكومي وبناء المؤسسات الديمقراطية للدولة.
لقد ظل السؤال المركزي الأساسي لكل التحولات السياسية الكبرى يتعلق بإمكانية بناء نظام سياسي يحفظ حقوق الجميع دون أن يتحول إلى نمط من الاستبداد أو أن ينزاح إلى الفوضى؟ ذلك أن بعض الثورات العربية تحولت إلى حروب أهلية وحالة حرب الكل ضد الكل في المقابل شهدت دول أخرى حالة من الردة السياسية نحو الاستبداد وعودتها إلى مربع الحكم الشمولي بصيغته العسكرية الأكثر سوءاً وانغلاقاً، ومن هنا كانت التجربة التونسية ذات خصوصية لتمكنها من الحفاظ على التوازنات المجتمعية ومراعاة حضور كل القوى السياسية ورغم محاولات الانقلاب على المسار الديمقراطي التي حاولت قوى إقليمية الدفع إليها بالاستناد إلى بعض القوى السياسية المحلية إلا أن حضور حد أدنى من الوعي والنضج السياسي دفع القوى الحزبية إلى الحفاظ على التوافقات والعمل المشترك وهو أمر يمكن ملاحظته منذ تشكل حكومة الترويكا الأولى سنة 2012 والتي ضمت أحزاباً علمانية وأخرى إسلامية، وتجسدت بشكل جلي في صياغة الدستور التونسي الذي عبّر عن تنازلات متبادلة بين مختلف القوى المجتمعية من أجل الحفاظ على منظومة الحقوق والحريات.
بقلم : سمير حمدي