+ A
A -

في بداية الألفية الحالية عملت بموقع صحفي كبير بالغربة، وكان مقر العمل يوفر المشروبات الساخنة للعاملين مجانًا، وكنت معتادة على هذا الإجراء كونه كان معمولًا به في مصر. انتقلت بعدها للعمل بجريدة محلية ذائعة الصيت بنفس البلد، فكنت في أثناء الدوام أطلب نسكافيه، فجاءني موظف البوفيه «كريشنر» ليخبرني أن من الأفضل إحضار الكأس «الماج» الخاص بي، فالجميع يفعلون ذلك. قلت: حاضر وشكرته بعدها بعامين عينت كمسؤولة لصفحة المرأة وهي واحدة من الصفحات المتخصصة بتلك الجريدة.

وفي يوم أصرّ رئيس القسم -وهو من جنسيتي- أني لم أسلم له الصفحة بينما كنت على يقين أني سلمتها له يدًا بيد، وكان الرجل دمثًا، خلوقًا، لكن تحت وطأة ضغوط العمل، يشتد الحنق ويكون التدافع بالتهم خيارًا سهلًا، فاستند الرجل لكوني -كنت حينها- حبلى ليتهمني أن الحمل قد أثر على ذاكرتي وجهدي.

أراد زميل لنا -من نفس الجنسية- التخفيف من الأمر فقال: تدافعوني رهان مفاده يعزم رئيس القسم الزملاء على نسكافيه لو وجدنا الصفحة بين الأوراق على المكتب، أما لو لم نجدها، فالمشاريب على داليا. وافقنا، ولم يجد رئيس القسم صفحة المرأة بين أوراقه، لكني سألت الزملاء، أليست المشروبات خدمة مجانية تقدمها الجريدة للعاملين أسوة بالموقع الذي عملت فيه سابقًا؟ فاستغرب الجميع وأخبروني بالنفي، انتظرت حتى انتهى الدوام وذهبت «لكريشنر» في عقر مطبخه وقلت: لمَ عامين من المشروبات المجانية، لمَ يا كريشنر، لمَ؟ هذا أمر شديد الحرج بالنسبة لي، ثم أنني لست بنت بلادك ولست على دينك، فما ظنك بي؟ قاطعني بعربيته الضعيفة: هدّي مدام هدّي، أنت أخت مال أنا، وكررها.. كل ما في الأمر أني شاهدتك وقد ارتضيت العمل بالجريدة أول الأمر كسكرتيرة براتب شهري «2000 ريال» ما يعني أنك بحاجة للمال، ثم حين نقلوك للعمل بأقسام التحرير الصحفي، استمروا في استغلالك وأبقوا على راتبك كما هو، بل حتى حين قاموا بترقيتك وأسندوا اليك صفحة المرأة بالإضافة لعملك في التحرير الصحفي رفعوا راتبك ليصبح ثلاثة آلاف ريال فقط.. أنا مطلع على كشف الرواتب لكل العاملين.

أتعلمين كم هو راتبي؟

: لا أريد أن أعرف يا كريشنر

: لكني أريد أن أخبرك، فراتبي 2000 ريال، لقد ساووا بيني وبينك

: هذا لا يضايقني

: لكن يضايقني أنا، فأنت درست الصحافة وتخرجت من كلية الإعلام ولديك خبرة في مجالك وتتحدثين أكثر من لغة، كما أنهم يصدرونك في الصورة حين يرسلونك لتغطية الأحداث. ثم نظر إليّ كأنه يريد أن يوقظ الوعي النائم بداخلي، وقال:

أنا لا أعرف الكلمة بالعربية، لكنهم لا يعطونك حقك، فتعاطفت معك كوني ألمس جهدك ومدركا لكونك تعودين لبيتك فتعملين وتساعدين فيه كزوجة هندية مكافحة، أنا لم أمنحك المشروبات لأني أراك قليلة، بل لأني أرى عملك كبيرا بل مضاعفا، لكنك لا تؤجرين بما فيه الكفاية، عدا أن حياءك وعدم خبرتك يمنعاك من طلب المزيد.

لم أعد للعمل باليوم التالي خجلًا من كريشنر، فاتصل بي رئيس القسم معتذرًا، كونه وجد صفحة المرأة بين أوراقه.

لا أعلم لم لا يأتي التقدير سوى ممن لا نتوقعه منهم؟ أحسب أن أثمن ما قدمته الغربة لي بخلاف ثراء التنوع، أنها جعلتني أتحمم وأغتسل للاستنجاء من درن إقصاء الآخر بناء على انتماءاته الدينية أو الإثنية أو الجنسية أو العقائدية، فكم من مواقف اجتماعية، اقتصادية، ونفسية تخلقها الغربة لتجد نفسك بمواجهة إنسان لإنسان. قبل الغربة كنّا نشرب من حوض نحسب أن نقاءه استثنائي، في حين قدمت لنا الغربة أنهارا جارية من بشر متعدد المشارب.

copy short url   نسخ
16/09/2023
125