+ A
A -

إنَّ شريحة من مؤسسات المجتمع المدني الحديثة، الحكوميَّة منها والخاصَّة، تتعامل مع وظيفة وأدوار العلاقات العامة على أنَّها ترفٌ غير مُبرَّر، ويُمكن الاستعاضة بها من خلال توزيع أدوارها على كيانات المؤسسة المختلفة، أو حتى من خِلال الاستعانة بوكالات علاقات عامة (تعمل خارج نِطاق المؤسسة) لتعهد إليها بعدد من المهام والمسؤوليات وفقًا لِما تتطلَّبُهُ المرحلة. والحقيقة أنَّ هذه النظرة المتواضعة لأهمية إنشاء كيان داخلي يُعهد إليه بمهام العلاقات العامة تتساوى تمامًا مع محدوديَّة التأثير الحالي والمتوقَّع لذه المؤسسات سواءً على جمهورها الداخلي أو جماهيرها وحُلفائها الخارجيين، إضافة إلى ضعف قنواتها واستراتيجياتها الاتصاليَّة التي يتمحور دورُها الأساسي والتراكُمي في عمليتي: البناء والتصحيح التي تؤسِّس للسُمعة المؤسسيَّة.

وفي مُقابل هؤلاء نُلاحظ أنَّ شريحة كبيرة من مؤسسات المجتمع المدني الحديثة استفادت من أجهزة العلاقات العامة التي تضُمُها مؤسساتها وحققت، من خِلالها، تكيُّفًا مؤسسيًّا وإنسانيًا بينها وبين جماهيرها الداخليَّة والخارجيَّة؛ وقد مكَّنها هذا البناء والتصحيح الذي وفَّرتُه إدارات العلاقات العامة الداخلية الناجحة من الإسهام في بُلوغ رؤيتها وأهدافها المؤسسيَّة وتحقيق المنافِع والخدمات المأمولة وتحقيق السُمعة المُبتغاة. وقد يُشير اصطلاح السًمعة المؤسسيَّة في هذا الباب إلى عددٍ من الغايات القصوى، منها على سبيل المثال: الثقة، حُسن التفاهم والتعاون، النجاح، الشُهرة، الرعاية الاجتماعيَّة والعدالة، نشر الطمأنينة في نفُوس جماهيرها، المناخ الإيجابي والبنائِي الجاذِب، الفخر بالانتماء، إلى غيرها من الغايات التي تشير إلى نجاح المؤسسة في خلق مكانة جديرة ومستحقَّة ومُشرقَة في المجتمع.

وبصفتها إحدى الكيانات الحيويَّة الهامة للمنظمات الحديثة؛ فإنَّ مُمارسات العلاقات العامة تواجِهُ تحدِّيات شتَّى قد تُعيق طريقها أو حتى تقوِّضه، لاسيَّما تلك الكيانات الإداريَّة التنفيذيَّة والفنيَّة التي تنتهِج منهاجًا كلاسيكيًا ينحصِر في تلقِّي الطلبات وتنفيذها فقط، الأمر الذي يجعل مُمارساتها التنفيذية، مهما بلغَت دقَّتها وسُرعتها وتحقيقها لرضى الإدارات العُليا، مُمارساتٍ سطحيَّة وعشوائيَّة وارتجاليَّة، كيف لا؟ وهي، بذلك، تُهمِّش الدور الاستراتيجي الذي يقومُ به مسؤول العلاقات العامة من ابتداعٍ وقيادةٍ وتنفيذٍ للخُطط والبرامج والحملات التكتيكيَّة، والتي يُرجى منها تحقيق أهدافٍ ونجاحاتٍ ليس فقط آنيَّة، إنما نجاحاتٍ متواترة تتحقَّق وتُثمِر نتائجها على مدىً طويل. هذا التحدِّي الذي يُواجِهُهُ مسؤولو العلاقات العامة عند تقويض مهامهم الإبداعيَّة والإنتاجيَّة والتوجيهيَّة وحصرها بالمهام التنفيذيَّة الرأسيَّة؛ يُسهِمُ في ضعف أو نُدرة اهتمامها بسيكولوجيا جماهيرها الداخليَّة وعدم استعدادها لإدارة الأزمات المختلفة، وفي المحصِّلة ستكون السُمعة والرأي العام المتكوِّن من هذا البناء والتصحيح (الضعيف جدًا)؛ ضعيفة وغير مُستقرَّة. وفي الحقيقة السُمعة المؤسسيَّة والرأي العام المتذبذب لا يحققان صورة ذهنيَّة مُشرقة في أذهان الجماهير أو العُملاء، وفي هذه الحالة لا يتحَقَّق الولاء الذي يُعتبر دِرع المؤسَّسة المنيع لمواجهة الانتقادات الموضوعيَّة وغير الموضوعيَّة من مختلف أصناف الجماهير، فِيما يُسهم ضعف الولاء والانتماء إلى إخفاقِ في نمو المؤسَّسة وازدها مناشِطها وقُدرتها على مواجهة المُنافسات الحاليَّة والمُرتقبة في سوق العمل.

وفي هذا الجانب حَرِيٌّ بي أن أُشير إلى أنَّ مكانَّة كيان إدارة وحدة العلاقات العامة في المؤسَّسة يتوقَّف على مدى الاعتماد والثقة الممنوحَة لها وأهميتها التي تُحدِّدُها الإدارات العليا في كل مؤسَّسة، وينعكس كُل ذلك في اتجاهين رئيسيين، الأول: الاتجاه الرأسي، أي أنَّ المرئيَّات وآليتها تُطلَب من أعلى الهرم؛ لتقوم العلاقات العامة فقط بالتنفيذ الحرفي لها دون تدخُّل أو أي ابتداع وإسهام، وهذا اتجاه تقويضي جدًا يحِدُّ من فُرَص هذا الكيان في تحقيق الاستراتيجيات وتنفيذ الخُطط والحملات والبرامج، ولا يُمكنها في هذه الحالة، إطلاقًا، أن تُسهم في البناء أو التصحيح المؤسسي، وبالنتيجة تشكيل سُمعة مهزوزة وغير ثابته. فيما يعكِس الاتجاه الثاني وهو الاتجاه المثمر الصحيح: وهو الاتجاه الرأسي والأفقي، ويًمكن أن يُطلَق عليه الاتجاه الصاعد والهابط؛ مُساهمة جهاز العلاقات العامة وما يضمُّهُ من خُبراء وتكنوقراطيين في رسم السياسة العامة للمؤسَّسة جنبًا إلى جنب مسؤولي الإدارة العُليا والقيام بتنفيذها على ضوء الإمكانيات المتاحة وفي الوقت والشكل الأنسَب، ووضع التصوُّرات والخُطط الحالية والمستقبليَّة لتحقيق النجاح والتأثير المستمر والمطلوب.

قارئي العزيز، أورَدَ الدكتور راسم الجمَّال، الأكاديمي المصري المتخصِّص في مجال العلاقات العامة والإعلان في كتابه (إدارة العلاقات العامة- المدخل الاستراتيجي) إشارة إلى موضوع السُمعة والولاء المؤسسِي، حيث قال: «ليسَ من الواضِح أنَّهُ يُمكن أن تُستخدَم إدارة السُمعَة كأساسٍ لبناء استراتيجيَّات المؤسَّسات، فمفهوم السُمعَة يرتبِط ارتباطًا أساسيًا بالأفراد الذين ليسُوا على علاقات مُباشرة مع المنظَّمة، في حين إنَّ مفهوم العلاقات العامة يرتبِط إلى حدٍ كبيرٍ بالأفراد الذين ينتمون إلى الجماهير الأساسيَّة للمؤسَّسة. ولا يُمكن اعتبار السُمعَة هدفًا استراتيجيًا للمؤسَّسات؛ لأنَّ بناء وإدارة علاقة المؤسَّسة مع جماهيرِها هو الهدف الاستراتيجي الأساسي. وإذا كانت السُمعَة مُهمَّة للمؤسَّسات التي تسعَى إلى جذب جماهير جديدة، فإنَّها ليسَت كذلك بالنسبة للجماهير الراسِخَة التي تتعامَل لفترة طويلة على أساسٍ سليمٍ مع جماهيرِها».

ورغم اتفاقي مع الجمَّال في غالبيَّة ما أوردهُ في كتابه المميَّز، إلا أنّني لا أتفِق معهُ إطلاقًا في هذه الجزئيَّة المتعلِّقَة بالسُمعَة، فالكثير من المؤسَّسات الناجحة تُدرك أنَّ سُوق الأعمال المُعاصِر أصبح سوقًا تنافُسيًا يتَّسِم بالتشابُك والتعقِيد والتداخُل وتدفُّق المعلومات إضافة إلى هيمنة عُنصُر المفاجأة والقلق والخوف، وعليه فإنَّها لا تركَن ولا تطمئِن إلى سُمعتها الآنيَّة الإيجابيَّة في السوق، فهذه السُمعَة لو لم تكُن أساسًا وعُنصرًا أساسيًا ومحوريًا من استراتيجيَّات المؤسَّسة؛ لبُدِدَت سريعًا، فكونها ليسَت جزءًا محوريًا من الهدف الاستراتيجي، يعني أنَّه لا توجد خطوات على مستويات (الخُطَّط والبرامج والحملات) نحو تحقيقها تعزيز تحقيقها، خاصَّةً مع اكتظاظ سوق الأعمال بالمنافسين الشرسين. كما أنِّي أختلف مع الجمَّال في مسألة أنَّ السُمعة المؤسَّسية لا ترتبِط إلا بالجماهير الجديدة دونًا عن الجماهير الراسخَة (يقصُد بها الجماهير الحاليَّة)، فالحقيقة أنَّ الجمهورين يتعرَّضان لذات الرسائل الاتصاليَّة التي يعُجُّ بها سوق الأعمال الذي تعملُ في إطارِهِ المؤسَّسة، وقد يكون الجمهور الراسِخ أكثر تهديدًا لنزعِ الولاء الحالي من الجمهور الجديد في حال لم تُخصَّص له برامِج تعزيز ولاء وانتماء.

copy short url   نسخ
10/09/2023
145