+ A
A -

من عادتي أن أتنقل للصلاة في مساجد المنطقة الكبرى لتورونتو (GTA) عاصمة ولاية أونتاريو الكندية، وهي الأهم في ولايات كندا، والأكثر حضوراً للتعددية الاجتماعية للمسلمين من أقطار العالم، فطبيعة المسجد أنه ديوان روحي ترتوي منه في أزمنة المهجر الصعبة، يكفيك عن كثيرٍ من الهموم والضجر، وبالطبع حين يتحوّل المسجد إلى مركز حياة اجتماعية ناشط للمسلمين في المهجر، فهو يُعطي قيمة أكبر لرسالته، ومن أهم هذه المراكز مركز الأناضول الإسلامي في ميساساغا. تأسس المركز منذ زمن، عبر الحراك الإسلامي التركي الذي وصل المهجر مبكراً، زمن القسوة العلمانية الشرسة على الشعب في الحكومات العسكرية، فالمركز يعج بالأنشطة تحت إدارته التركية وشركائه من العرب الكنديين، تتوقف بالضرورة عند أحد أبرز خطباء كندا، الشاب الخلوق صاحب الطُرفة والبسمة ذي الحديث الشيّق الذي يجتذب الشباب، وكبار السن معاً، ويُراعي خواطر الجميع، وهو الشيخ المصري د. مصطفى خطاب، لا يكاد الرجل يأوي إلى منبره أو ينصرف منه، حتى تقاطعه الجموع أسئلة وسلاماً وهو يبادلهم بكل ابتسامة مشرقة وأريحية كريمة. لكن الأهم في منهج مصطفى خطاب، ولغته الإنجليزية المتمكنة والسلسة المخلوطة بالمصطلحات الإسلامية، والتي أعانته في ترجمات متخصصة لمفردات القرآن، أنه ذو جاذبية وتفهم وانفتاح لشبابنا مواليد كندا، أو الذين هاجروا إليها مع أسرهم قديماً، أو وصلوها حديثاً، والوصول إلى قلوب الشباب وقناعتهم الذاتية في قضايا الكليات الإيمانية، والقيم الإسلامية، وهي اليوم مهمتنا الأولى الصعبة في كندا. فنحن في مسارين للشباب غاية في الحساسية والخطورة، الأول هو الحفاظ على الكليات الإيمانية، والانسجام العقلي والفكري معها، الذي يواجه أمواجاً عاتية من رياح القلق والتيه، تبعثها أجواء العولمة الجاثمة على الناس، والمتمكنة من كل وسائط الإعلام، وخاصة في الأعمار التي تبدأ من العاشرة، وربما قبل وحتى الـ 18 وتزيد، ليصل ضميرهم إلى مرحلة الاستقرار الإيماني والنفسي معاً. وهو الاستقرار الذي يساعد في سكينة الأسرة ووحدتها الاجتماعية، في ظل موجات طلاق مخيفة، أو تنمّر على الوالدين بسبب رفض بعض الشباب الانسجام مع قيم الأسرة، أو مجرد التواجد معها بسبب روح الانعزال التي يتأثر بها لطبيعة الحياة في كندا، والتي تشكل الفردية أساس تشريعاتها وثقافتها. ولذلك مصطلح (التنمّر) ضد الوالدين في الغرب، نعني به هذه المساحة المتزايدة من انفصال العائلة داخلياً، من خلال رفض الأبناء نمط الحياة الأسرية، أو أحياناً عدم توفيق رب الأسرة إلى حسن قيادتها، وتفعيل الحوار والحب معاً بين منظومة الأسرة المسلمة في الغرب عموما أو كندا خصوصاً. وهذا بالضبط أحد أهم الأبواب التي يُساهم مصطفى خطاب، إمام وخطيب المركز والمعلم التربوي في معالجته، وحجم المعالجة يظل محدوداً رغم أهميته، أمام أزمة الواقع، كما أن الحاجة الماسة له تزداد، عرفتُ ذلك من خلال ما يؤكد لي دوماً الأصدقاء ذوو العلاقة بالتوجيه الاجتماعي والتربوي للمسلمين في كندا، ولذلك فنوعية هذه المهمة ضرورة قصوى للواقع المسلم في كندا، وخاصة أن مساحة الاحتياج بين الحياة الاجتماعية للأسرة المسلمة وبين المركز، مستمرة في كل الأقاليم والمدن. ولذلك صُدمت عندما بلغني خبر إعلان د. مصطفى خطاب، مغادرته كندا، لوصل والدته الكريمة التي انقطع عنها لظروف الهجرة مدة طويلة، ولترتيب بعض مهامه الشرعية البحثية، فأن تفقد شخصية اجتماعية تربوية في هذا الزمن في بلد ككندا، فأنت تخسر موقعاً لا يعوّض، ليس لعدم وجود آخرين ولكن للحاجة القصوى لأمثاله وإلى نموذج وطريقة تعاطيه الهادئة مع الشباب، كضرورة للرعاية الإسلامية. أما المسار الثاني فهو تربية النشء على منهج شراكة مع بقية المجتمع الكندي وتعدديته، دون أن يتخلى عن قيمه الفارقة، شراكة اندماج لا دمج قسري، يخضع للقهر غير الأخلاقي للمفاهيم المختلف عليها، إذ أن زيادة ضغط التشريعات والحياة المفتوحة على العولمة ومساراتها، تنتزع الشاب من الجذر الأخلاقي الذي يحتاجه بشدة اليوم، حتى لا يقع في مسارات الإدمان أو الإحباط بعد انفصاله عن محيطه. ولعل إيضاح د. مصطفى لي أنه عائدٌ إلى كندا بعد إجازته بعون الله، طمأن الخاطر، لكن الأمر ليس متعلقا بشخصه الفاضل فقط، وإنما بمجمل الأزمات الاجتماعية والسلوكية، وهي تتضخم ولا نزال نحتاج إلى مأسسة منظومات تعبر إلى الشباب، تقوم على قاعدة شفافية كبرى، ومنظومة أخلاقية لا تقدم فكرها للمسلمين فقط، بل كل الأسرة الكندية التي تهتم بمفهوم الود والسكينة الفطرية للأسرة.

copy short url   نسخ
03/07/2022
120