+ A
A -
إنَّ التاريخ يُعتبَر أكبر مُعلِّم للبشريَّة، فأوراقُهُ الحُبلى تُعتَبَر نِبراسًا يَهتدِي بِهِ ذوو الألباب في كُلِّ مكانٍ وزمان، وبِه يسترشدون من أجل الإبداع والتفكير والحركة والحذَر والترَوِّي، والتاريخ لن ينسَى في دفّاتِه حِصار قطَر الجائِر الذي تجاوز عتَبَة المائة يوم، فدول الحِصار أصبحَت تبحَثُ عن مَخرَجٍ فانتازِيٍ أقرَب للمستحِيل وفي وجه التصعيد الذي تتبناه هذه الدُول كانَ ومازال الموقف القطري يبحَث عن سُبُل الحوار الجادّ والتهدِئَة الواعيَة من أجل مصلحة هذه المنطقة الحيوية في العالم ومن أجل مصالح كُل من تضرر جرّاء هذه الأزمة غير المسؤولة نحو المجتمع الدولّي بشكلٍ عام والمجتمع الخليجي بشكلٍ خاص، والناظِر للأمر يجِد أنَّ دُول الحصار لا تتجِه نحو حِراك حقيقي لحلّ الأزمة المتصاعِدة في المنطِقَة، فهي تقِف على أرضيَّة مهزوزَة كُليًا ولا يُمكِن التكَهُن بما سيخرُج عنها من مواقف «ثيمَتُها» الغَدِر وعدم الثبَات، ولانَّ السيناريُو الخليجي الراهِن في تصعيدٍ ملحُوظ يجب علينا أن ننتهِز كُل لحظة لنستفيد منها في حاضِرنا ومستقبلِنا وصناعَة الوعي العامّ لجيلنا والأجيال القادمة.
ذكرت في توطِئة مقالِي حقيقة أنَّ التاريخ هو أكبَر مُعلِّم، لكِن هذه الحقيقَة الدامِغَة عليها ألا تحجِب الحقائق الأخرى الهامّة والتي من أبرزِها ضرورَة أن يتمّ إدراج هذا المنعطَف التاريخِي الحادّ في التاريخ الخليجي ضمن المساقات والمواد الدراسيَّة في المراحل التعليميَّة المختلفة التي من هدفها أن تقوم بدور التنشئة السياسيّة والاجتماعيَّة اللازمة لأبناء الوطَن ليكونوا مواطنين صالحين في هذا المجتمع المتنامي الذي تتربَصُ بِهِ المطامِعُ والأحقاد من القريب والبعيد، فبرأيي معرفة الأجيال القادمة لهذا الحدَث ستُعَمِّق من معرفتهم لحقوقهم وواجباتهِم تجاه قطر، ومُؤخَرًا كشَفَ سعادة الدكتور محمد عبدالواحد علي الحمادي، وزير التعليم والتعليم العالي، عن أنَّ جميع المناهج الدراسية ستشهَدُ تعديلاتٍ خلال الفترة المقبلة، لافتًا إلى أنَّ «الحِصار سيترُك بصمَة، ليسَ فقط على مادة التاريخ، بل على جميع المواد نظرًا لكونه جزءًا لا يتجزأ من تاريخ البلاد». وشخصيَا أعتقد أنَّ هذا الدور عليهِ ألا تقومُ بهِ وحدها المؤسسات التربويَّة الرسميَّة في البلاد من مدارس وجامعات ومعاهد، بل على كافة المؤسسات التربويَّة غير الرسمية أن تقومَ بِهِ وأعني بهم: مؤسسة الأسرة والأندية الاجتماعية المختلفة، والمكتبات العامة ودُور النشر والطباعة وأسطُول وسائل الإعلام المتنوعة (صحافة، إذاعة، تلفَزَة، منصَّات التواصل الاجتماعي)، فإنَّ مهمة إعداد المواطنين إعدادًا سياسيًا رائِدًا هي مهمة يشترك في صناعة نتائجها الجميع، كما أنَّ عملية التربية السياسيَّة- لاسِيَّما بعد هذه الأزمة التي تُعَدُّ حدثًا تاريخيًا محوريًا في التاريخ المعاصر الحديث، وفي تاريخ مجلس التعاون لدول الخليج العربيَّة- تُعتبّر جُزءًا من أجزاء التربيَة الإسلاميَّة التي تستهدِف الفرد والمجتمع، فالتربية السياسيَّة ستقوم بإعداد المواطنين لممارسة الشؤون العامَّة في ميدان الحياةِ العريض عن طريق مدِّهِم بالوعي والإدراك من أجل تفعيل دورهم المجتمعِي الواعي في المشاركة الفعّالَة وإعدادهم بالطريقة المُثلى لتحمل مسؤولياتهم الوطنيَّة وتمكينِهم من القيام بواجباتهم والتمسُّك بحقوقهم ومعرفة تاريخهم وتاريخ المنطقة التي يعيشون فيها بهدَف بلوغ أعلى درجات المعرفة والتبصُّر واستقراء التاريخ، وعلينا أن نعِي جيدًا بالعلم والعمَل أنَّ التاريخ لابُدَّ وأن يُعيد نفسه في مرحلة من المراحِل الزمنيَّة التاليَة، وعلينا أن نتجهَّز لها بكُل حِنكَة وعُتادّ.
عزيزي القارئ، لقد قامت مُؤخرًا كُلية القانون بجامعة قطر بطرِح مُقرَر خاص في هذا الفصل الدراسي؛ فصل خريف 2017 يُعنى بموضوع «الأبعاد القانونية لحصار قطر من منظور القانون الدولي»، ويهِدف هذا المقرر إلى إشراك عددٍ من طلبة الكُلية المسَجِلِين في المقرر في نقاشاتٍ علميَة وتبادُل الآراء القانونية المدعُومة بمبادئ وأحكام القانون الدُولي حول هذا الموضوع الراهن، حيثُ يتميّز هذا المقرر بالطابِع البحثي، إذ سيُطلب مِن طلبة المُقرر عوضًا عن الاختبار النهائي إعداد أبحاثٍ قانونية في أحَد موضوعات الحصار على الدولة، وذلك من خلال التأصيل العلمي الرصين لهذه الأبحاث، والموضوعية في تغطية تلك الجوانب من الناحية القانونيّة، وخصوصًا في القانون الدولي، وقانون الملاحة البحرية والجوية، والدبلوماسية وفَضّ النزاعات الدولية، وقانون مجلس تعاون دول الخليج العربية، وقانون حقوق الإنسان الدولي، والنظرية العامة للمنظمات الدولية، ومنظمة التجارة العالمية، وغيرها من المواضيع ذات الصلة، وسيكون للدراسات البينيّة في السياسة والإعلام والعلاقات الدولية انعكاسات ظاهرة في تحقيق مخرجات الدراسات التي سيقدمها الطلبة فرادى أو في مجموعات، وستُقَدَّم العروض الختامية للطلبة أمام لجنة تحكيم متخصصة، وستُجمَع أفضَل الأبحاث في كُتيِّب وإرسالُه للجهات المختصة في الدولة كوزارة الخارجية ووزارة الاقتصاد والتجارة واللجنة الوطنية لحقوق الإنسان.
إنَّ جيراننا في دُوَل الحِصار ابتلَوا بخوفِهِم من السياسَة، حيثُ تجِد أنَّ عُلماءهُم ودُعاتهُم ابتعدُوا عنها ابتعادًا اختياريًا وقصرِيًا، وتجِد أنَّ شعوبهُم تجهَل المعاني المُتقدِّمة للسياسَةِ والوطنيَّة، وهم في فاصِلة حقيقيَة عن مقومات بناء الدولة والإنسان المتمثِلَة في: المنهَج، القيادَة، الشعَب، الأرض، وإنَّ هذا يعتبَر من أكبر الأخطاء الجسيمَة التي ترتكبُها هذه الدوَل في حقِّ رعاياها، فجيرانُنا يتمثَلون كثيرًا لمبدأ الفيلسوف والمُنَظِّر السياسي الإيطالي نيكولو ميكافيلي؛ صاحِب مبدأ «الغاية تُبَرِر الوَسِيلَة»، فبسبب فلسفَة دُول الحِصار التي كانت دومًا في حركة خوفٍ من ردّة فعل رعاياها بسبب عدم استقرارها الداخلي وجُورها في الداخِل والخارِج، أفضى الأمر إلى أن يتم وضع قوانين غريبة ترفضها الأدمغة ومعايير حقوق الإنسان وتسُوق هؤلاء الرعيَّة نحو مآلات وُلاة أمرهِم بشكل قسري لا اختياريَّةَ فيه، إن الدول العَظيمة لا يُمكنُها البقاء على قيدِ الحياة والازدهار إلا من خلال قيادات حكيمة وفاضِلة وفاعِلَة تغرِس في شعُوبها فضيلَة الانتماء الوطني بكُل حُب واحترام فتجعلُهُم يمتثلون بسلوكهم للقيَم الوطنيَّة السائِدَة في المجتمع ومستعدينَ على الدوام للمشاركة في الأعمال التنمويَّة والتطوعيَّة والوطنيَّة، مُعتَزِّينَ بكُل حُرّيَة برموزهم الوطنيَّة، ومُلتَزِمين بالأنظِمَة والقوانِين السائدَة، ومحافظِين على ممتلكات الوطَن وثرواتِه المختلفة، ومشَجِّعِينَ لكافة المنتجات الوطنيَّة المختلفَة، ومُستعدِّين على الدوام للتضحيَة دِفاعًا عنِ الوَطَنِ والحقيقَة، إنَّ جريرَة قطر إذَن؛ هي العدلُ والحكمة والحُبُّ الشَعبوي، وما أجملَها من جريرَة!
بقلم : خولة مرتضوي
copy short url   نسخ
17/09/2017
4022