لنتخيل أننا كنا نتناول وجبة الغداء معاً، وقدمت لك صديقي الأجنبي لتتعرف عليه وهو قد بدأ للتو في تعلم اللغة العربية. وفي أثناء حديثك عن مشكلة مررت بها وعلامات التأثر بادية على محياك، يستوقفك صديقي الغريب فجأة ليقول لك: أنت فعلًا حمار!
لا شكّ أنك ستستغرب جداً، وستكون على وشك رد الشتيمة بمثلها. لكن دعني أعاجلك بشرح سوء التفاهم الذي حصل.
إن تعريف الحمار بالنسبة لك، هو ذاك الحيوان المعروف بالغباء ومضرب المثل في البلادة والكسل. لكن الحمار بالنسبة إلى الشخص المقابل هو الحيوان الصبور ومضرب المثل في القدرة على التحمل والعمل الجاد.
معظم الخلافات بين الناس إن لم تكن كلها سببها سوء الفهم. نحن نتخيل أن الطرف الآخر هو من يجب عليه أن يستنتج ويجيب بطريقتنا ذاتها، وأن يرى العالم بالأسلوب نفسه الذي نراه فيه، ونعتقد جازمين دون مجال للشك بأن آراءنا حقائق ثابتة، لا محض وجهات نظر تقابلها آراء كثيرة مغايرة.
الصراعات لا تكون بين طرفين: حق وباطل، بل إن كل طرف يكون على حق من وجهة نظره هو، وكلاهما ينظر لنفس الشيء بطريقة مختلفة. إن أدركت ذلك في تعاملك مع الآخرين فإنك ستتجنب الوقوع في الكثير من المغالطات وسوء الفهم.
تختلف بعض المجتمعات عن غيرها في تربية الفرد منذ الصغر على تقبل الرأي الآخر، والانفتاح على جميع وجهات النظر، مع تعليمه عدم اعتبار نفسه على صواب دوماً.
فعندما يتعلم الطفل أن الصواب والخطأ نسبيان في كثير من مناحي الحياة، يصبح قادراً على النظر بعين الآخرين، بدلاً من الاكتفاء بالنظر عبر تلسكوبه الشخصي فحسب، والذي يتيح له رؤية حيز صغير من هذا الوجود؛ هو الحيز الذي يوجه عدسته باتجاهه، كما يفعل علماء الفلك عندما يرقبون نجماً بعينه.
إن أصعب حياة على الإطلاق، هي حياة شخص كل شيء في عالمه مطلق لا نقاش فيه. إذا خالفته في أي صغيرة أو كبيرة فإنه يحقد عليك ويصنفك ضمن قائمته السوداء. مثل هكذا واقع يعيشه الكثيرون أشبه بصحراء قاحلة لا حياة فيها، كأنما الشخص مجرد مومياء تمشي على الأرض دون روح ولا عقل.
منحنا الله تعالى العقل وميزنا به عن سائر المخلوقات لكي نستعمله، لا لننحّيه جانباً ونجعل عاطفتنا البدائية هي المسيطرة على أفكارنا وآرائنا وتصرفاتنا. فإن كانت باقي الكائنات الحية تعيش بدافع من آلية أتوماتيكية فطرية لا يد لها فيها، إلا أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع اختيار معتقداته وأفكاره وتعديل وجهات نظره تجاه أي شيء.
وما الشر في هذا العالم إلا بسبب أولئك المتعصبين لتوجهاتهم وآرائهم، ممن لا يقبلون أي نقاش أو شك فيما يقررون هم أنفسهم بأنه غير قابل للنقاش أو الشك. وما تخلف بعض المجتمعات إلا لأنها تكم الأفواه، وتقمع حرية التعبير، وترفض أي فكر يخالف ما ألفته.
حتى نبني إنساناً يصنع حضارة، فلا بد أن نتحرر من الأحكام المسبقة، والآراء المطلقة، ووجهات النظر التي لا تقبل الشك. لا بد لنا أن نتقبل الآخر، ونشجع على التنوع، ونفتح أبواب الحوار الهادف. فلا تسمو الأمم إلا بعقول أبنائها، ولا تسمو العقول إلا إذا توسعت مداركها، وأصبحت ترى الاختلاف مدعاة للاحتفاء والتطور، لا بداية خلاف لا يسمن ولا يغني من جوع.
عش حياتك بإنسانية. تقبل الآخر واحتضن اختلاف الآراء وتنوعها، حتى تحظى بدائرة علاقات شخصية ومهنية قائمة على الاحترام المتبادل. افتح عقلك، ووسع مداركك، لتصنع تاريخاً مجيداً وحضارة عريقة.