+ A
A -

ينبثق الطفل إلى العالم وهو عبارة عن دفتر صفحاته بيضاء مستعدة للكتابة عليها، ليس فيه برمجة مسبقة ولا إرشادات معينة. يأتي إلى الوجود ليتولى أب وأم رعايته وتنشئته وبرمجته من الصفر، كل ما يريده هو أن تلبي حاجته للطعام.

وبعد انقضاء مدة قصيرة تزداد احتياجات المولود الجديد، فيتوق إلى اللعب واكتشاف العالم، فيبدأ بمراقبة الأشياء بدافع من الفضول الطفولي الجميل، ويلاحقك بنظراته البريئة حيث يتعمق التواصل البصري بينكما، بينما يزداد في الوقت نفسه حبك لهذا المخلوق الصغير الذي أصبح جزءاً من حياتك.

مع الوقت، يكبر الطفل شيئاً فشيئاً، في حين يميل أغلبنا خلال كل مراحل النمو إلى جعله نسخة عنا، حيث يتمنى الآباء أن يكون الذكور على شاكلتهم، وتتمنى الأمهات أن تكون الإناث على شاكلتهن. نتمنى أن يكون أطفالنا نسخة عنا لكن أفضل، فنبذل في سبيل ذلك الغالي والرخيص من منطلق المحبة في الأوضاع الطبيعية.

لكن ما لا يدركه الكثير منا، هو أسباب تربيتنا لهذا الطفل الجميل. ما الذي نريد منه؟ وماذا نريد له؟ وما رؤيتنا لحياته المستقبلية؟ دون أن ننبته إلى حقيقة أننا نربي الأطفال غالباً ليكونوا صورة مصغرة عنا، وأن عشرين بالمائة من تكوين الإنسان وشخصيته نتاج لتكوينه الداخلي وإرادته الحرة لما يكبر، لكن الغالبية الساحقة لتكوينه النهائي تتأثر بالمحيط الخارجي؛ بمعنى أن جزءاً كبيراً من شخصية المرء تتشكل بفعل البيئة المحيطة المتمثلة بالأبوين والعالم من حوله.

إذن فالهدف من التنشئة غالباً ما يتجه نحو تربية جيل يشبه إلى حد كبير الجيل الذي يقوم بتربيته، كما تخبرنا المقولة المتداوله في وطننا العربي: «من شابه أباه فما ظلم».

وبالتالي فإن الأب والأم يحاولان جاهدين عمل أجسام مصغرة عنهما، لا لنية سيئة لا سمح الله، بل بدافع الغريزة البشرية التي تجعلهما يريدان لأطفالهما أن يكونوا نسخة طبق الأصل عنهما. ولأن المربي يعتقد جازماً أن جيله أفضل وعصره أجمل، فإنه يريد لطفله أن يعيش حياته ذاتها من منطلق أنه يفهم الحياة أكثر منه بحكم خبرة السنين الطويلة؛ فيبدأ في تعليمه كيفية العيش، وزرع أفكار ومفاهيم معينة في عقله ووجدانه تتناسب طرداً مع ما يفكر فيه ويعتقده.

وبناء على هذا، يعتقد الآباء والأمهات أن تربية الأطفال بأسلوبهم الخاص سيجعلهم يكبرون ليصبحوا نسخة أفضل منهم، كونهما يقدمان للطفل عصارة تجاربهما في الحياة – وهنا تبدأ المشكلة الحقيقة.

في مرحلة معينة من عمر الطفل، لا يرى المخلوق الصغير سوى مصدرين للثقة هما الأب والأم. وكلما خاض تجربة أو واجه مشكلة أو تعرض للتهديد أو الخوف من شيء فإنه يهرع إلى مصدر الأمان هذا. وما لا شك فيه أن المحبة الشديدة من طرف الأم والأب تجاه صغيرهما ستدفع بهما إلى تولي زمام المبادرة والعمل على حل المشكلة القائمة. لكن مع التقدم في العمر، يبدأ الصغير في مواجه مشكلات أكبر وأكثر تعقيداً، بينما يستمر تدخل الأب والأم في كل تفاصيل حياته بما فيها لباسه وطعامه وأصحابه وصولاً إلى تحديد تخصصه وبمن يرتبط في المستقبل.

في الحقيقة إن ما يغيب عن أذهان الآباء والأمهات المحبين لأطفالهم، هو أنه من المستحيل أن تجعل طفلك صورة طبق الأصل عنك؛ لأنك لا تستطيع أن تخضعه إلى نفس الظروف التي عشتها في صغرك وتشكلت شخصيتك بناء عليها. وهذا يعني أن خلق صورة طبق الأصل عنا لا ينفع أبداً عند تربية الأبناء والبنات؛ لأن التغيير هو الثابت الوحيد في الحياة.

لن يظل الطفل معتمداً عليك طيلة حياته، والحياة في تغير مستمر. ولهذا فإن التدخل المستمر في قراراته وحل مشكلاته، من باب الحب، سيجعله في المستقبل حين يضطر إلى مواجهة المستجدات لوحده يرجع إلى كتيب الإرشادات الذي زرعته بداخله انطلاقاً من تجاربك الشخصية التي كانت ضمن واقع مختلف تماماً؛ فيجد أن الحلول الموجودة لديه لا تجدي نفعاً مع الواقع الجديد.

وحين يحاول أن يطبق ما جاء في كتاب الإرشادات، ويفشل مرة تلو الأخرى، سيصل إلى مرحلة يسعى فيها لإعادة برمجة كل شيء – وهنا مكمن الخطورة، حيث يمكن أن يلقي كل الكتاب الذي يتضمن مفاهيمه وقيمه التي تربى عليها جانباً، ويبدأ من نقطة الصفر!

لهذا كله، لا تحاول جعل طفلك صورة طبق الأصل عنك، بل علمه كيف يخطط لحياته، وكيف يتعامل مع المشكلات، مع محاولة توجيهه بما يتناسب مع العادات والقيم، فضلاً عن ترك التعامل مع المحيط الخارجي كمهارة أساسية على الصغير تعلمها منذ نشأته، حتى يعرف كيف يتصرف عندما يتغير محيطه وواقعه بناء على تجارب ذاتية مبنية على واقع عاشه هو لا عاشه أبوه أو أمه.Instagram: @hamadaltamimiii

copy short url   نسخ
10/07/2023
85