+ A
A -
تناولت في مقالي المنشور أمس جملة قضايا وعدة زوايا حول المشهد الثقافي في الأزمة الخليجية «تداعياته وإرهاصاته» مع تسليط الضوء على عدد من الأسماء المعروفة فيه لتقييم أدائها وتحجيم دائها وتحديد دوائها، قبل أن يتفشى هذا المرض في أوساط المجتمع الخليجي المعروف بقيمه الأخلاقية وتمسكه بضوابطه الدينية والاجتماعية، ويسهل فيه الكذب والتلون في المواقف والاستفزاز والابتزاز!
وختمت المقال بفقرة عن مسرحية «مراهق في الخمسين» للاستدلال بأن المراهقة ليس لها عمر معين ولا اتجاه محدد.
وما إن جف حبر الصفحة ودارت ماكينة الطباعة مع منتصف الليل حتى صدمنا بخبر وفاة بطل المسرحية المذكورة عملاق الفن الخليجي والكويتي عبدالحسين عبدالرضا، بعد معاناة مع المرض وعن عمر ناهز الـ78 عاما قضى معظمها في خدمة الفن بموهبة أصيلة وخط مستقل مستفيدا من قدراته المتنوعة في التمثيل والتأليف، فكان بمثابة «الفنان الشامل» بكل ما تحمل الكلمة من معنى، والنجم الأول في الساحة لمدة نصف قرن.. مما جعله ظاهرة خاصة ستفتقداها الشاشة والمسرح والجمهور.
رحل أحد أركان المشهد الثقافي والذي خصص فنّه لمعالجة المشاكل الاجتماعية وطرح القضايا الهادفة مع التزامه التام بالعمل على كل ما يقرّب ولا يفرّق، ونشر معاني الحب والوئام والسلام ونبذ التعصب والكراهية، ولم يذكر أنه أقحم نفسه في القضايا الخلافية سواء السياسية أو غيرها، ولم ينحدر لمستنقع الفتنة الذي يعيش فيه عدد من المحسوبين على الثقافة والفنون، فعاش ومات فنانا محبوبا يحظى باحترام وتقدير في محيطه الخليجي.. وشعبية جارفة على مستوى الوطن العربي.
شخصيا.. وبدون مبالغة أقول إن هذا الفنان هو الوحيد الذي يجبرني على ايقاف تدوير جهاز الريموت عند ظهوره على الشاشة، فله عندي وضع مختلف عن بقية الفنانين، يتفاعل مع النص المعروض عليه، وأشعر بثقل المشهد المتواجد فيه.
وربما للبدايات أثرها أيضا.. فأذكر أن أول عمل رمضاني رسخ في ذاكرتي كان برنامج المسابقات «أمثال غطاوي» والذي قدمه الراحل مع الفنانة القديرة سعاد عبدالله.. ويقول ضمن تتر البداية وبصوته الشجي ورقصته المزركشة:
«ياناس ياللي بيتكم فيه يهّال.. صوتّوا لهم يمكنهم ألحين ناسيييين».
«بوعدنان» قالها قبل 36 سنة «باي باي لندن» في أفضل عمل مسرحي تم تقديمه في تلك الحقبة، وبالأمس قالت له لندن باي باي للأبد.. بعد أن توقف قلبه عن النبض في أحد مستشفياتها.. ليسدل الستار على ظاهرة يصعب تكرارها أو استنساخها.
هذا القلب المحب لديرته وأهله وناسه في الخليج لا يستطيع التعايش مع أجواء الكراهية التي تملأ الفضاء اليوم من دول الحصار وإعلامها ومغرديها وفنانيها، والذين سيسّوا كل شيء وتحولوا لبؤر فتن وإفساد للتحريض بين الدول والشعوب في سابقة تاريخية تشكل وصمة عار على من يبث السموم ويفرض الحصار.
حولوا المنطقة إلى «عافور» بتصرفاتهم المراهقة وتصريحاتهم الطائشة، سواء من السياسيين أو مندوبيهم في الثقافة والإعلام، منتهجين أسلوب البلطجة والتفحيط فيما العالم كل ينتقدهم ويسخر منهم ويضغط عليهم لتجنيب المنطقة «درب الزلق» ومشاكل إضافية لا تحتملها وسيكون تأثيرها على الجميع بدون استثناء، فكان الدور الكويتي البارز «قاصد خير» وتهدئة تعبيرا عن «الحب الكبير» لمجلس التعاون والحفاظ عليه من التفكك والتشرذم رغم تعنت دول الحصار ومساعيها الحثيثة لإفشال هذه الجهود الخيّرة، بهدف قطع «حبل المودة» والمراوغة على طريقة «الحيّالة»!
لكن قطر أعطتهم «درسا خصوصيا» في كيفية التعامل بالأخلاق أولا ثم من خلال القنوات السياسية والقانونية كما تتعامل الدول المتحضرة والمتطورة، وليس بالصراخ والصياح في وسائل الإعلام مثل «عتاوية» في «سوق المقاصيص»!
هذه «الأقدار» مكتوبة، وفي كل مجال يوجد السيئ والجيد، ومن رحل ومن سيرحل، وفي النهاية لن تبقى إلا ذكرى السيرة والمسيرة، ومن أجاد ستتحدث عنه سمعته ومن عاث فسادا فلن يرحمه التاريخ ولا أجيال المستقبل.
الثقافة لها مشارب واسعة وفروع متعددة، وكثيرون أثّروا في هذا العالم بمواقفهم ومبادئهم وتأثيرهم في حياة الناس، وقدموا رسالة محترمة بقيت خالدة في مجتمعاتهم لأنها كانت صادقة قبل كل شيء ثم مقنعة ومفعمة وملهمة، وبالتالي وجدت طريقها المثالي للانطلاق بقوة الحق. وليس كما يحدث في مشهدنا الثقافي الخليجي والعربي وما يتبعه من إعلام مضلل وفن هابط باستثناء قلة معروفين ومشهورين ومعدودين على الأصابع.
على مدار التاريخ كان للمثقفين دور بارز في تغيير الواقع مهما عظم أمره ووقفوا في وجه العديد من القرارات والمشاريع الخاطئة، احتراما لطبيعة دورهم كمصابيح نور، لمساعدة مجتمعاتهم نحو التحرر والعدالة والتطور.
قبل أكثر من نصف قرن نشر نعوم تشومسكي، الكاتب الشهير، مقالته البارزة المناهضة لحرب فيتنام بعنوان «مسؤولية المثقفين»، ومما قاله «تتمثل مسؤوليتهم في قول الحقيقة وتعرية الأكاذيب»، كانت الولايات المتحدة وقتها في حالة حرب، لكن ذلك لم يمنعه من معارضة الحرب وتعرية ما وصفه بـ «الإمبريالية الأميركية»، أما في الحرب على العراق فكان الإجماع على رفضها، وهو بدأ قبل وقوعها، وما زلنا نذكر مئات المثقفين والشعراء والفنانين والمسرحيين والصحفيين والمحللين الأميركيين كيف عبَّروا عن هذا الرفض: تظاهرات في الشوارع، واعتصامات، واحتجاجات بالشعر (قرابة 3000 قصيدة كتبها شعراء أميركيون ضد الحرب)، وارتجالات في المسرح، وغناء وعزف، وصراخ وهتاف، بحيث تحوّلت الشوارع والساحات والمنابر، بناسها، ومن كل الفئات، إلى ما يشبه القصائد الملونة الطالعة من الأجساد والحناجر.
ولهذا، بدا إصرار بوش وبطانته على الحرب، وكأنه مُوَجّه أيضاً ضد الرأي العام الأميركي، والنخبة، والفكر، أي ضد الضمير الثقافي والشعبي، قبل أن يكون موجهاً ضد الرأي العام العالمي ومؤسساته، أي موجها ضد أميركا التي كانوا يحلمون بها.
فرنسا شهدت دورا مماثلا لمثقفين وقفوا إلى جانب الثورة التحريرية في الجزائر إذ لعبوا دورا كبيرا في تنوير الرأي العام الفرنسي والرأي العام العالمي لما يُقترف بحق الجزائريين من قبل الجيش الفرنسي، والأمثلة كثيرة، وبعضها مؤلم.
الانتماء للثقافة ليس حكرا على أحد فهي فضاء واسع الانتماء مفتوح لكل من يمتلك جوهريا ميزات الثقافة وأصولها، لكنها في دول الحصار باتت مفتوحة لكل من هب ودب، طالما استطاعوا تلبية معايير واشتراطات الأنظمة، ومثل هؤلاء فضحتهم أزمة الخليج وعرّتهم حتى من ورقة التوت!
هناك من يرى أن الثقافة تعني مدى تأثر الإنسان بالقراءات والمعلومات المكتسبة فهي نتاج إنساني واجتماعي، والمثقف هو ذلك الإنسان القادر على التأثير في محيطه والدفاع عن قضايا الحق والعدل، وما رأيناه من مثقفي السلطة كان شيئا مختلفا.. فتجاهلوا العمل بشعار قناة الجزيرة الذي يعطي الحق للصوت الآخر.. ورفعوا شعار العربية بعد إجراء تعديل يناسب المرحلة: «أن تدفع أكثر»..!
بقلم : محمد حمد المري
رئيس التحرير المسؤول
copy short url   نسخ
13/08/2017
8299