+ A
A -
قارئي العزيز، عادّةَ تتسِم الخطابات الإعلاميَّة باختزالها كمًا كبيرًا من التصورات القَبليَّة الذهنيَّة حول الآخر والتي لا تُحيل نهائيًا إلى تبيان حقيقتِهِ الصِرفَة، بل تقوم بالعكس تمامًا؛ فهي تكشِف حقيقَة الذاتِ الواصفة، وأعني هنا بالخطابات الإعلامية؛ تلك الرسائل الاتصاليَّة التي يتمَ بثها عبر مختلف وسائل الإعلام الكلاسيكيَّة والجديدة، وهذا ما نلاحظهُ بوضوح في خِطاب الكَراهيَّة الخليجِي والذي تفاجأنا فيه جميعًا بعدَ اندلاع حصار قطر، فالدول المحاصرة كان بيانُها الأول مناقضًا تمامًا لما جرت عليهِ الأحداث، حيثُ كان البيان الأول يؤكدُ في مضمونِهِ احترام الشعب القطري، في إشارةٍ لعدم إقحام الشعوب في هذا الخلاف المفتعل، لكن ما إن اندلعت الأزمة حتى فوجئنا جميعًا بسيل عِرمرمٍ من الخطابات المليئة بالكراهية والمحرضة على الحقد والعُنف التي مست وجدان الشعب القطري، الذي حاول ومازال أن يواجِه تلك المشاهد والعبارات المنشورة في وسائل إعلام دول الحصار أو تلك التي يتمّ بثها عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائط الإعلام الجديد المختلفة؛ بصمودٍ أخلاقي وثباتٍ سلوكي كبير، رُغم أنَّ ما جرى أُّثرَ أيّما تأثير في النسيج الاجتماعي والاقتصادي الخليجي الذي كانَ يميّز سكان هذه المنطقة؛ فتشتت العائلات وتقَطَّعَت الأرحام وتعثَّرَت الأرزاق والمصالح، وانتشر شعورٌ عارم بين مواطني الدول المقاطعة مليءٌ بالغضَبِ والكراهية والحقد، الأمر الذي عَكَس نتيجةً طبيعيَّة لخطاب الكراهية المتواتر الذي تبثُهُ كالسُّمِ في الوريد وسائل إعلامهم المُحَرِّضَة.
إنَّ محترفي الإعلام في عالم اليوم يُناقشون بشكلٍ دائمٍ وجادّ؛ أهمية أن تتسِّم الخطابات الإعلاميَّة الموجهة في مختلف الوسائل بارتكازِها على الحوار بينَ الأديان، ونشرها قيم التسامُح وقبُولِ الآخر ومُناداتها بمزيدٍ من التفاعُل بين الحضارات الإنسانيَّة وذلك على اعتبار أنَّ الخطابات الإعلاميَّة تُمثِّل قوةً دافِعَة توجه الوعي الإنساني وتدفعُهُ نحوَ التقَدُّمِ والرُقِي، لكننا في منطقة الخليج وللأسف الشديد تراجَعَ بنا الحال، حتى أصبحَ البيت الخليجي المتَّحد مليئًا بالتراشُقات والشتائم التي بَثَّتهَا دول الحصار ولم ترحم بها صغيرًا ولا كبيرًا ولم تُراع فيها حُرمة العَرضِ والشرفِ والذِمَّة وصدقَ العهد التي أنشأنا عليها جميعًا أبناءنا منذُ الصِغَر، إنَّ هذا الأمر يُنذِرُ بأنَّ صناعة الكراهية والغضَب مُزدهرة في إعلام دول الحصار والتي أثرَت على سلوك الجموع والحشود في تلك الشعوب والذين لم يشعروا بقليلِ من الاستفزاز والمراجعة السلوكيَّة عندما كانوا يتلقون الردّ عليهم من الطرف القطري؛ المحاصَرِ ظُلمًا وبُهتانًا من قبل من يعدهم أشقاءه بكُل رُقي ومنطقيَّة، رُغمّ أنَّ الخطاب الموجه إليه من قبل دول الحصار خطابٌ غير عقلاني ولا يتكئ بتاتًا على عُدَّةِ معرفيَّة رُغم طول سنوات العشرة مع هؤلاء الأشقاء، كما أنَّهُ خطابٌ يميلُ إلى اختزال عدد من الصور الذهنيَّة النمطيَّة التي لا وجود لمرجعياتها في التاريخ أو الواقع القطري، ومن ثم فنحنُ اليوم نجني آثار هذه الثقافة التي يُنتجُها مثل هذا الخطاب الذي يملأُ علينا الفضاء الإعلامي، أو بالأحرى يجنِي وجَنَى ثمارُها صُناع هذا الخطاب، فتلك الشعوب وذلك القائمُ على الاتصال لديهم؛ من رئيس التحرير إلى القائم على تنفيذ البرامج في الإذاعة والتلفاز، وصولاً إلى ذلك الشخص الذي يُغرِّد في منصات التواصل الاجتماعي، وذلك الذي ينشُر في وسائط الهواتف الذكية، وهؤلاءِ ما جنوا إلا تراجُعًا أخلاقيًا وثقافيًا وحضاريًا كبيرًا.
إنَّ خطاب الكراهية الخليجي هذا انتقل من المستوى الإعلامي إلى المستوى السلوكي، وهي نتيجة حتميَّة وطبيعيَّة تفرضُها قوة وسائل الإعلام الكلاسيكيَّة والجديدة على المتلقي في أرجاء المعمورة، فما بالك في منطقة جغرافيَّة محدودة وشعبٍ كانَ واحدًا لمدةٍ طويلة، حيثُ كانَت العلاقة التي تُهيمِن عليهم هي علاقة «الأنا» بـ «الأنا»، لا علاقة «الأنا» بـ «الآخر» المهيمنة الآن على العلاقات بين دول الحصار «الأنا» والعلاقة مع الشقيقة المحاصرة ظُلمًا قطر «الآخر»، الأمر الذي جعل التفاعُل الإيجابي من قبل دول الحصار وشعوبها مستحيلاً؛ فهي ترفُض الحوار في كل أشكاله وتنادي بهِ بكُل فجور، الأمر الذي أسس لثقافة الإقصاء والكراهية وزيادة كثافة الحواجز النفسيَّة وتوسيع مساحات الغضب الشعبي، كما أنَّ الحضور القطري الإعلامي في الخليج عليه أن لا يندرج نهائيًا ضمن إشكالية «الآخرية» أو «الغيرية» أو المغايرة، فهذا الأمر ينطبق على الثقافات المتناحرة المختلفة، ولا يمكنه أن ينطبق في أيِّ حالٍ من الأحوال على ثقافة شقيقة، بل واحدة، «فالغيرية» بعبارة الجابري؛ مقولة أساسية مثلُها مثلُ مقولة «الهوية»، ومما له دلالة في هذا الصدد أنَّ كلمة «الغيرية» تعني تغَيُّر الشيء وتحوُلَهُ إلى الأسوأ (تعَكُّر، استحالة، فَسَاد)، كما أنَّ مفهوم «الغيرية» في الفكر الأوروبي ينطوي على السلب والنفي، وهذا مرفوضٌ نهائيًا عندَ جموع العُقَلاء والشُرَفاء أن ينطبق على قطر إلا من نفسٍ لا تسمو إلى الأخوة الحقَّة التي تتسامى عن أيِّ خلافٍ من أيِّ نوع، فكما نعلم أنَّ التحول من هامش التاريخ إلى داخل التاريخ أمرُ صعبُ وشاق ويحتاجُ إلى عمل، بينما النزولَ إلى هامش التاريخ يعدُّ أمرًا سهلاً ويسرًا ويحتاجُ إلى ظُلمِ وجبروتِ وطغيان، وهذا ما استحقّتهُ تلك الدول بفعلاتها الشنعاء. قارئي العزيز، إنَّهُ لمقارعة صناعة الكراهية والغضب التي تبُثها وتُأكِّدُها دول الحصار علينا أن نلجأ لاستثمار الفكر القطري كخيار استراتيجي حكيم وذلك في مختلف المجالات: الاقتصاد، الإعلام، التعليم، مؤسسات المجتمع المدني، مراكز البحوث.. إلخ، وعلينا كذلك أن نتجاوز عقلية التباكي على صورة الجسد الخليجي الواحد الذي مزقتهُ رعونةُ دول الحصار، وألا نتقمَّص دور الضحيَّة نهائيًا فهذا لا يليقٌ بنا، هو يليقُ تمامًا بدول الحصار المهزومين أخلاقيًا واقتصاديًا وتاريخيًا وأخويًا، علينا الآن أن نقلب الصورة من خلال الأخذ باستراتيجيَّة اتصاليَّة وإعلاميَّة واقتصاديَّة وتعليميَّة وتنمويَّة شاملة تُغنينا عن أيِّ من «الآخر»، مهما كان حبيبًا اليوم، فحبيبُ اليوم رُبما يتحولُ قريبًا إلى عدوِ لدود يُقصينا ويجعلنا «آخَرًا» و«آخِرًا» في كلِ شيء إن لم نتنبَّه من اليوم ونستفد من منحة الحصار ومنحة خطاب الكراهية والغضب التي كشفت الكثير وجعلتنا أكثر صلابةً من ذي قبل وأكثر التحامًا، والطريق للاعتماد على الذات طويل لا يبدأ إلا من خلال ممارسة مكاشفة ذاتيَّة صادقة للتعرُّفِ على مكامن قوتنا وضعفنا ومواقع الخلل لدينا والتي تعمل بطريقة غير مباشرة لإعطاء شرعيَّة لبناء التصورات النمطيَّة الخاطئة والمدسوسة التي يبثها الأشقاء في دول الحصار، وأخيرًا علينا دومًا أن نأخُذ بالمبدأ القُرآني بالدفعِ بالتي هي أحسن، قال اللهُ تعالى: «وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ».

بقلم : خولة مرتضوي
copy short url   نسخ
28/07/2017
3662