+ A
A -

منذ أن اُسقطت وثيقة الشرق الإسلامي الأخلاقية، التي كانت آثارها حاضرة رغم الاستبداد في بعض أركان حضارته، لم يزل الواقع السلوكي إلا فيما ندر يهوي في جاهلية لا تحفظ حقوقاً ولا تحترم إنساناً، ولا تؤوي لاجئاً أو طريداً، فيما تتوارى أصوات المجتمع عن رفض الخطاب العنصري، هذا إذا لم يكن هو أولوياتها الأولى التي تطالب الحكم به، أو تشاركه فيه.

ولذلك كانت ذاكرة السؤال تعود لي في زيارة بريطانيا، رغم أني عالجتُهُ في مواد عديدة، ولذلك لن أرجع لذلك الأرشيف، وإنما لمركز رئيسي منه، وهو كيف نستأنف في الغرب مهمة التفكير المختلف في سبيل النهضة الشرقية.

وألاحظ هنا أن بأس السياسة على المجتمعات العربية، لم يقف عند بئر ضحاياها ولا مشرديها فقط، ولكنه يُسقط أفكارها، بعد أن حوّلها لطرائد منشغلة إما برزقها اليومي وتأمين ذاتها وعائلاتها، أو في استبدال التفكير الإستراتيجي بالملاعنة اليومية السريعة والدورية.

وهي مادة غير مكلفة، قد يتعود على إدمانها المرء، فإذا ما استشرت في المجتمعات، كانت الوباء الذي يُقدم الخدمة للمستبدين، ومشروعهم العدمي للأوطان، لماذا هو عدمي؟

لأن البلدان تسقط ليس لتحكّم الاستبداد السياسي وحسب، ولكن عبر بغي وفساد مهول هيأ له المستبد، يُنهي أي أمل أو طموح للشباب المسلم في الشرق، وما تعيشه قضية الحرية السياسية في دول إسلامية عدة، وأزمة العودة إلى الهوية القومية العنصرية، في الصراع السياسي وفي السؤال الشبابي، يثبت لنا أنها بالفعل أزمة تشمل الشرق.

هنا نلاحظ أن الوباء انتقل إلى التفكير العربي في بلدان المهجر، ولا نقصد من ذلك أنهُ لا يوجد عطاءات إسلامية متعددة ونجاحات في قيادات المجتمعات المسلمة في تأمين مؤسسات العبادة، ومراكز التأهيل التعليمي، وفي تنظيم حضور المسلم المعاصر في عالم الغرب، غير أن هناك أمرا مفقودا بصورة واضحة، وهو إعادة بعث الفكر الإستراتيجي، لبحث فرص المخرج الآمن للناس في الشرق، ووقف الانهيارات السياسية والاجتماعية.

وهو أمرٌ يحتاج إلى احتشاد عقول وسواعد شباب، لا تحرق المراحل ولكن تبدأ بالتأسيس الموضوعي، ومناقشة واقع الأرض الممتحنة، بعيداً عن صخب العواطف، وتحرير الخطوة الأولى في إطلاق التفكير الجديد، ورغم أنني مؤمن بأن الدعم والقدرات المادية مهمة للغاية، غير أن انتظارها أشبه بالوقوف عند سكة حديد ممتدة في المحطة، مقطوعة لا وصل لها من طرفي المدينة، فكيف يصل هذا الدعم؟

وبالتالي التفكير هنا هو في تحشيد ما يمكن من طاقات الشباب، أولاً لعرض الفكرة عليهم ومطارحتها معهم، ثم للنظر في خريطة طريق محددة بهدف ممكن، وهو إطلاق ندوة تخصصية، تستضيف أوراقاً وأبحاثاً، لا يُقصد منها ملأ المنابر واكتساب الجمهور بقدر ما يُحقق من خلالها، تفجير النهر الذي يحفر مجراه.

والقصد هنا في بعث ورشة التفكير الشرقية الإسلامية، ليس التحول إلى جماعات معارضة حزبية أخرى، فبريطانيا وغيرها، مليئة بهذه الجماعات، ولها دورها المقدر والمفهوم في كفاحها الحقوقي، وبعضها له أخطاء وتطرف لغة، أسقطت الرابط الوجداني مع الشعوب، وحوّلها إلى مجرد منبر تشويق للمشاهدين العرب، وليس المقام هنا ملاومتهم ولا مدحهم، فكل مقدر جهده عند مولاه والله أعلم بالنيات.

غير أن حديثي هدفه توضيح المعنى المستقل لفكرتنا الجديدة، في أن الشرق يحتاج إلى مفاهيم إنقاذ تترسخ في حياته الفكرية وفي سلوكه الاجتماعي، وتنتشر في فضاءاته الإعلامية، ولو بحيّزٍ بسيطٍ جداً في البداية، من خلال طاولة مستقلة، يُنظّم جدولها الشباب، وتطرح تصوراتها للمشترك، الذي تحتاجه أوطان الشرق المسلم للنهوض، ولمعالجة الأفكار السلبية التي تهوي ببلدان العالم الإسلامي، وتكفل للمركز الغربي، مهمة تحييده وإضعافه.

وهذا المشروع نضعه في إطار مستقبلي، يحتاج لفترة زمنية حتى ينضج ويُعلن عن ندوة تداول فكري خاصة، وأعرف من الأسماء في المهجر الغربي والشرق، من يمكنه ملأ المقاعد، ويتحمل تكاليف السفر، لكن الأصل هو تحرير هدف الندوات بدقة، ودون اندفاع مجهول عاطفي صاخب، وفك مسببات الاشتباك السياسي، بأكبر قدر يضمن تدفق الفكر باستقلال يقوده الشباب.

وللوصول لهذا المشروع هناك قاعدة ضرورية تسبقه، وهي تحقيق التأهيل الثقافي والتربية الفكرية، لمجموعة الشباب التي تنطلق لهذا المستقبل، وعليه يُبعث جيل جديد في جغرافيا ألفُرص التي لا يزال الغرب، هو الأرض الأصلح لها، رغم كل التحديات الجديدة، ظل هذا السؤال يدور في خلدي في لقاءاتي البريطانية، وعند قرع البيغ بين، هل هناك من يعلق الجرس؟

copy short url   نسخ
04/06/2023
50