+ A
A -
توفيق الحميدي كاتب يمني

دخلت الوحدة اليمنية في منعطفات تاريخية متعددة، بداية من عام 1990، ما سمي بمعركة الدستور، وهي معركة حشد لها كل أدوات النصر والنجاح، كان الإسلام وهوية التشريع جوهر المعركة، على حساب القواعد الدستورية التي تنظم الدولة واستقلالية السلطات وتحد من نفوذ السلطة التنفيذية وعلى رأسها علي صالح، فشل اليمنيون في الاتفاق على الخطوط العامة للدولة المدنية، وذهبوا إلى القتال في عام 1994، وتحركت الرغبة في الإلحاق والضم والكسب الشخصي، حضر الدين والتاريخ في هذا الصراع وغاب الفكر السياسي، لم تكن الوحدة الجغرافية في الذهن السياسي اليمني للنخب الحاكمة آنذاك إلا حقلا جديدا من حقول النفوذ والفساد.

كانت الوحدة تحمل بذور مشروع وطني حضاري كبير قادر على العبور باليمن نحو المستقبل، وتأسيس مداميك سياسية متينة لبناء قواعدها، لكن للأسف الجميع لم يغادر عقلية الغنيمة، والغنيمة هنا الاكتفاء بتحقيق نجاح دون القدرة على إدارة ديناميكيته فيبدأ الدخول في حالة استهلاك ذاتي، فتح النظام السياسي اليمني جراحات الماضي بكل أوجاعه دون مشروع عبور تصالحي وانتقالي يقود اليمن إلى بر الأمان.

لم تكن الديمقراطية التي مارسها اليمنيون سوى عنوان خارج كتاب الحاكم، الخارجي هو المعني بها، لم ترسخ في المناهج الدراسية، ممارسات الحياة العامة إلا بقيود أو وصاية، بينما ظلت الحقيقة المرة هي ما قاله صالح يوماً «أنا الدستور والدستور أنا».

انفجرت ثورة 11 أيار (مايو) كاستحقاق سياسي واجتماعي وحضاري طبيعي لشعب يحمل بذور حلم حضاري وتتويجا لتفاعل ثقافي وسياسي كبير قادته النخب المستقلة «سبق الثورة ترشح ابن شملان الجنوبي نقطة انعطاف لهز الشجرة التي بدت راسخة كما عبر عنها السياسي اليمني «قحطان»، كسرت حاجز الخوف وأوجدت الممكنات التي كانت مستحيلة، دفعها الربيع العربي خطوات نحو الأمام، لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ اليمن السياسي انتهى بخروج صالح من السلطة وإنتاج مخرجات الحوار الوطني.

حاول الحوار أن يضع كل قضايا اليمن على الطاولة، من صعدة إلى الجنوب، إلى حلم الدولة المدنية، إلى اللامركزية النسبية التي بدت من خلال مشروع الأقاليم، والسعي لمصالح سياسية واجتماعية عبر عدالة انتقالية قانونية، الذي يؤسس لمرحلة جديدة محورها الوحدة اليمنية بناء على عقد اجتماعي جديد، يوزع الثروة والسلطة ويحد من نفوذ السلاح والهيمنة على أسس عائلية، كانت مخرجات الحوار عنوانا متقدما لما يفكر به اليمنيون ولما يطمحون إليه، وتأكد أخيرا أن اليمنيين وضعوا أيديهم على الجراح التي أسست لدورات من العنف السياسي والاقتتال على كرسي السلطة في عدن وصنعاء.

كان اليمنيون قاب قوسين أو أدنى من الذهاب إلى مستقبل جديد، يقوم على أسس سياسية ومرجعية قانونية جديدة، ولن أكون مبالغا في القول إن نجاح اليمنيين في تنفيذ مخرجات الحوار على الأرض، والذهاب إلى مرحلة جديدة، كان سيؤسس لنموذج يمكن أن يشكل مخرجا لحالة الاقتتال والاحتقان في دول أخرى، لكن هناك قوى داخلية وخارجية أقلقها النموذج اليمني الذي يمكن أن يرى النور في ظل حالة تواصلية عالمية وميسرة يمكن أن يجعلها محور تأثير للمنطقة بأكملها.

التحدي الأكبر اليوم أمام اليمن، يبدأ بالاعترف بكل وضوح بجذور المشكلة المتمثلة في احتكار السلطة والثروة بيد عائلة أو جماعة في العاصمة وحرمان بقية المحافظات في حقها في السلطة والثروة وإدارة شؤونها، إضافة إلى غياب أي مصالحة يمنية سياسية اجتماعية حقيقية، حيث مارس الناس والطبقات السياسية التمحور حول المنتصر، وهذا للأسف ظل يخفي تموجات سياسية واجتماعية وحكايات الفشل والإقصاء التي مورست منذ ستينيات القرن الماضي.

تحولت المحافظات وعواصمها إلى قرى رتيبة بسبب تركز السلطة والثروة في صنعاء، كان آباؤنا يعملون لسنوات طويلة خارج الوطن لأجل أن يصرفوا علينا أثناء الذهاب إلى صنعاء، وصنعاء تمركزت حول مشيخات وأصحاب نفوذ، وقصور فساد، وتركت لقدرها تواجه الإهمال، عاصمة اليمن بلا مجاري صرف صحي، وبلا مواصلات نقل عام، لم تنتج المركزية السياسية سوى نخبة، تجيد الشحاذة السياسية المالية، وترى في الدولة مشروعا للثراء الشخصي.

ثماني سنوات مفترض أن تكون شكلت نضجا سياسيا ورؤية إلى المستقبل، ومنحتنا إدراك ما هي الأحلام وما هي الحقائق، سؤال الدولة والوحدة ومعادلة الإقليم والمركز، والتصالح التنموي مع الجغرافيا المحلية، وتقييد دور الجيش دستوريا، وإعادة هندسة المجتمع وفق خطاب المواطنة والتعايش الذي يقبل بالآخر، مداميك أساسية للمستقبل الذي يستوعب كل يمني.

في النهاية حان الأوان للبدء بالتهيئة النفسية والقانونية للأقاليم المؤهلة لإدارة نفسها على أرضية مشروع اليمن اللامركزي، بداية تفرضها ضرورة حلحلة جذر المشكلة الحالية، يتبعه قانون يتفق عليه الجميع يعتمد على مخرجات الحوار الوطني، والذهاب إلى خيار مستقبلي واقعي لضبط المعادلة التي اختلت وأصبح خيار إنقاذ لليمن الذي تتقاذفه مؤامرات التقسيم والتقزيم.عربي 21

copy short url   نسخ
24/05/2023
5