+ A
A -

روى ابنُ الجوزي في عيون الحكايات:

إنَّ وهبَ بن منبه قال: كان عابدٌ من عُبَّاد بني إسرائيل يعبدُ الله دهراً في صومعته، فعفَّ وزهِدَ حتى شكته الشياطينُ إلى إبليس، فقالوا: إنَّ فلاناً الراهب قد أعيانا، فلا نصيبُ منه!

فانتدبَ له إبليسُ بنفسه، فأتاه، فقرع بابه، فقال: من هذا؟

فقال إبليس: أنا ابنُ سبيلٍ، افتحْ لي حتى آوي إليكَ الليلة في ديرك!

فقال له: هذه القُرى قريبة منك فاقصِدْها!

فسكتَ إبليسُ، ثم قرع الباب، وقال: افتحْ لي.

قال: من أنت؟

قال: أنا المسيح!

فقال له الراهب: إن تكن المسيح فليس لي إليكَ حاجة، قد بلَّغتَ رسالة ربك، وموعدنا الآخرة!

فسكتَ إبليسُ، ثم قرع الباب، وقال: افتح لي.

قال: من أنتَ؟

قال: إبليس! فافتحْ لي وأعاهدكَ أن لا أضركَ أبداً!

فنزلَ ففتحَ له، فصعدَ إبليسُ، وجلس بين يديه، وقال: سلني عمَّا شئتَ أُخبرك!

فقال له: أي شيء أعوَنُ لكم في غواية بني آدم؟

فقال: السُّكرُ، فإنه إذ سكِرَ لعبنا به كما يلعبُ الصبيانُ بالكرة، فلم يمتنع عن شيء نريده منه!

فقال الراهب: ثم ماذا؟

فقال إبليسُ: الغضب، فإنه مهما بلغ من عبادته نُصيبُ منه في غضبه!

فقال: ثم ماذا؟

قال: البُخل، نأتي ابن آدم، فنُقلل نعمة الله عليه، ونُكثِّر ما في أيدي الناس، حتى يبخل بحق الله في ماله فيهلك!

هذه أسلحة إبليس الأشد فتكاً، السُّكر، والغضب، والبخل!

وما ميَّز الله سبحانه الإنسان عن الحيوان إلا بالعقل، ومن أذهبَ عقله بيديه فقد اختار طوعاً أن ينحدر إلى مرتبة الحيوان! وقد قرأتُ مرَّةً عن سكيِّرٍ عاد ثملاً إلى بيته واغتصبَ ابنته، فلما استفاق من سكرته، وعلم شنيع فعلته قتلَ نفسه، لقد كان في لحظة سكره مستسلماً لغريزته الحيوانية بلا رادع العقل، وما سمّى الله تعالى العقل «حِجْراً» في القرآن، إلا لأنه يحجرُ على صاحبه، فيمنعه من الوقوع في الخطأ!

وأما الغضب فلحظة عمياء تهدم حياة الناس، كم من طلاقٍ شتَّتْ شمل البيوت كان وليدة لحظة غضب، وأغلب الذين سُجنوا بجرائم القتل إنما ارتكبوها في لحظة غضب! القتل عن إصرار وترصد قليل مقارنة بذاك الذي جاء في لحظة غضب، ثم تنقلبُ حياة المرء بسبب لحظة لم يستطع فيها أن يملك زمام نفسه، لهذا لم يكن عجباً أن تكون من وصايا النبوة: لا تغضب!

وأما البُخل فأبو الحرام كله! وهل أُكِلَ ميراثٌ إلّا بسبب البُخل؟ وهل مُنعَتْ زكاة إلا بسبب البخل؟ وأغلب قطائع الأرحام لأجل المال، وهل غير البخل يجعلُ المالَ صنماً يُعبد؟!

فمن حفِظ عليه عقله، وملكَ نفسه عن الغضب، وعالجَ نفسه من داء البخل، لم يبقَ له الكثير ليصارعه!

copy short url   نسخ
23/05/2023
975