+ A
A -

لا يخفى على مطلّع، مطالبة أميركا لمصر بالحد من زراعة القمح مقابل قيام «العم سام» بتوفير المنتج بثلث ثمن التكلفة للتحكم في مصادر قوت البلاد.

إذن، كيف نسمت من صوب دلتانا سنبلة قمح بطعم الحرية، فقد نشأت «هبة دربالة» في بيئة خضعت لزراعة البرسيم، ومع هذا، نبتت «هبة المنصورة» كسنبلة قمح بين فدادين البرسيم لتُذكر أهل الكنانة أن أرضهم مؤهلة لتغذية عقول العالم بالقمح.

لم تنشأ «د.هبة» في جو من الخوف الأسري، لكنها عانت الانغلاق ذاته في مجتمعها الريفي. فقد ولدت بالستينيات لأسرة منعمة، إذ كانت الابنة الوحيدة للأستاذ «شوقي دربالة»، أحد كبار المحامين، أما والدتها، «إحسان هانم الوكيل» فقد أنجبتها بعيد ست عجاف من عدم الإنجاب، وتعترف د. هبة أنه تم التعامل معها داخل أسرتها كشخصية مميزة ليقين والديها أنهما لن يرزقا بسواها، وتضحك كلما تذكرت رفضها الذهاب صغيرة للروضة لمجرد أنها كانت تلقى معاملة عادية وهو ما لم تعتاده في أسرتها.

من والديها، ورثت «دربالة» سمات الشخصية الكاريزيمة، لكنها أيضًا، دفعت ثمنًا باهظًا لانتمائها لأبوين قياديين، أرغماها على دراسة الطب لرفض والدها دراستها للقانون الجنائي، فضلًا عن الضغوطات غير المباشرة لحملها على الزواج.

لكن كان للمراجعات مساحة في شخصية «دربالة»، فعقب زواجها استفاقت روحها كطالب داهمه وقت الامتحان، فعاودت اللحاق بحلمها ودرست القانون لتحقيق حلم الصبا.

وهكذا، قدم في أزقة العمل العام فيما الأخرى في الدار، حيث كانت كثيرًا ما تضع كتبًا على مكاتب أبنائها لتشجيعهم على الاطلاع، ثم تعود بعد أسبوع لتجد الغبار عابسا على الكتب، لتدرك أن الجيل الحالي يركن للثقافة السمعية لا البصرية.

كان هذا أحد أسباب شروع «دربالة» لإنشاء قناتها عبر «اليوتيوب» لتكريس جهودها عبر وسائل التواصل، فأجرت عشرات الحلقات عن كثير مما يشغل الرأي العام، ما جعلها تساهم في تمهيده للتغيرات المتلاحقة التي يموج بها المجتمع على الأصعدة الثقافية والإجتماعية.

والمتابع لفيديوهات «د.هبة» يلمس جانبًا إنسانيًا، فهي بارعة في فن الإنصات روعتها في فنون الكلام، ثم ظهر جليًا الجانب المحارب في شخصيتها، إذ لم يكبحها المرض الخبيث عن رسالتها التنويرية المسموعة، فكرست وقتها لإماطة أذى المتعصبين الذين ينخرون في العقل على حد تعبير الكاتبة «نيفين صدقي» عبر برنامجها «حكي نسوي» بالإضافة لبرامجها السياسية التي ساهمت في شرح تاريخ مصر السياسي والديني.

هذا الألق الذي صاحبها بعيد الخمسين جاء كحصاد لعمل دؤوب، عدا كونها تحلت بمرونة لم تحظ بها د. السعداوي، في حين عاشت «الدربالة» حياة مدنية وسط الريف وأقامت بقلب المدينة بروح هانم ذات أصول قروية.

تقيم بميت غمر، أو بحي توريل بالمنصورة، تفتح هاتفها، لتتفاعل مع العالم الافتراضي كله كروح تأبى الركود وتعمد للركض عبر التنقل بين أقاليم مصر بحكم عملها السياسي، حيث شغلت عدة مناصب حزبية وقد اكسبها العمل السياسي مرونة لم تتمتع بها د. السعداوي التي كانت أشد إقصائية في توجهاتها ما جعلها تتصادم مع السلطة وتسجن.

بالمقابل، كانت د. دربالة أكثر كياسة، فلم تكن ملكية أكثر من الملك، لقد قامت بدورها التنويري بأمانة، لكنها لم تجد جدوى في منح أي مستغل فرصة للزج بها في السجون، سيما حين وجدت أعدادا مهولة من النساء على استعداد للرضوخ للمزيد من التعذيب لفهمهن الخاطئ لمعنى الطاعة.

وللقارئ أن يتخيل الحرب التي تواجهها سيدة تعيش في قرية، ترجم المفكر وتعْدم الأديب، فما بالنا بمن تدعو لاحترام كافة المعتقدات وتعلن عن حبها لجيرانها المسيحيين وتجاهر بولعها للموسيقى وتدعم من يعاني من عنف أسري وسط قرى تموج بالكبت والجهل.

ولأن أزهد الناس في العالم أهله وجيرانه، فأحسب أن تأثيرها في المجتمع العام قد فاق نظيره في محيطها. وسيمر العمر حتى يفهم الداني أنه مرّ بِهم واحدة من الكبار كونها انتشلت نفسها وآخرين من الانسياق للقطيع.

ويصدق فيها قول الأبنودي: «كانت الصوت لما تحب الدنيا سكوت»

ولا تزال سنابل القمح تطرح الخير في مراعينا.

copy short url   نسخ
20/05/2023
125