+ A
A -

شدّت الانتخابات البرلمانية والرئاسية التركية أنظار العالم خلال الأيام القليلة الماضية وهو ما يؤكد الأهمية الكبيرة لهذه المنافسة والتي تتجاوز في أهميتها النطاق التركي لتشمل الإقليم كله. وسجلت هذه الانتخابات كذلك أعلى نسبة مشاركة في تاريخ البلاد وصلت إلى حدود 90 في المائة، متجاوزة كل التوقعات، وكذا كانت النتيجة، مما يعكس بداية تجذر التقاليد الديمقراطية في تركيا الجديدة.

لكن الجولة الأولى لم تحسم السباق الانتخابي وهو ما يفرض المرور إلى جولة جديدة من الانتخابات الرئاسية. من جهة مقابلة تفاجأ كثير من المراقبين بقوة التيار المعادي لأردوغان متسائلين كيف تنكر الجماهير التركية كل الإنجازات التي حققها الرجل خلال المدة التي بقيها في السلطة سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي ؟ كيف لم ينجح الرجل في حسم المنافسة منذ الجولة الأولى للانتخابات ؟ أما الفريق المقابل فيستغرب هو أيضا من شعبية أردوغان الراسخة رغم الأزمات الاقتصادية ورغم الجائحة ورغم الزلزال الذي ضرب تركيا مؤخرا. فكيف لا يزال الأتراك يصوّتون للرجل رغم كل ذلك ؟

لا شك أن كل هذه المعطيات تكشف أهمية المشهد التركي وطبيعة التحولات التي تحكمه وقوة الانقسام داخل المشهد الانتخابي بين قوتين رئيسيتين. إن الصراع بين المكون العلماني اللبرالي والمكون الإسلامي المحافظ يجعل من تركيا اليوم منوالا فريدا في طبيعة حالتها السياسية خاصة بعد فشل المحاولة الانقلابية وخروج العسكر تقريبا من موازين القوى المحلية.

فبغض النظر عن طبيعة الفائز في الجولة القادمة فإن انتصارات كبيرة قد حققتها تركيا سياسيا بأن ثبتت قدمها في سلمية العملية السياسية وطغيان طابعها المدني من جهة. كما أنها شجعت الناخبين الأتراك علي المشاركة بقوة في تحديد نوع السلطة التنفيذية والتشريعية التي يختارونها من جهة ثانية. حققت البلاد مكتسبات كبيرة خلال السنوات القليلة الماضية بأن نجحت داخليا في تحقيق قفزة اقتصادية وتنموية هامة كما تمكنت خارجيا من التحكم في التوازنات الدولية ومنع الانجراف في الصراعات التي قد تعيق مسارها التنموي. لكنها استطاعت بحنكة وحكمة فرض مصالحها الخارجية سواء في المحيط المباشر مثل سوريا واليونان والبحر المتوسط أو في مجالها الاقليمي مثل المجال الليبي.

بناء عليه فإنه من المستبعد أن تنتكس التجربة التركية بعد كل هذه الأشواط المقطوعة وأن تعود إلى دائرة الاستبداد والمغامرات العسكرية التي أخرت نهضتها عقودا من الزمان رغم أن تحديات كثيرة تبقى قائمة أمامها لتأكيد قطعها النهائي مع إرثها القديم.

محمد هنيد

أستاذ محاضر بجامعة السوربون

[email protected] -

copy short url   نسخ
18/05/2023
140