اليومُ عيد، وإنها لفرصةٌ سانحةٌ لكتابةِ مقالٍ رنانٍ يبدأُ بقولِ المتنبِّي: عيدٌ بأيّةِ حالٍ عدتَ يا عيدُ! ولكني قررتُ أن أُفوّتَ هذه الفرصة لسببين:
الأوّل: أنّ جدّتي قالتْ لي مرّةً: لا تفرحْ في أحزانِ النّاس، ولا تحزنْ في أفراحهم!
والثّاني: أنّي لا أُصدّقُ أنّ المتنبِّي كان حزيناً صبيحة العيد حين قرضَ بيته الشّهير إيّاه!
كان المتنبِّي يعيشُ في قصرٍ منيفٍ على ضفافِ النّيل، معزّزاً مُكرّماً، كلّ ما ينقصه ولاية كان كافور قد وعده إيّاها فحنثَ! ولم يكن المتنبِّي أفضل أخلاقاً من كافور الحانث! فقد كان يأكلُ بأثداء شِعره! ففي المساء كان:
قواصدُ كافورٍ تواركُ غيره
من أراد البحر استقلّ السواقيا!
وفي الصباح صار:
لا تشترِ العبد إلا والعصا معه
إنّ العبيد لأنجاسٌ مناكيدُ!
أمّا لماذا تباكى المتنبِّي صبيحة العيد، فتلك قصّةٌ أخرى! المتنبِّي كان داهية، وقد أراد من القصيدة أن تكون خطّ رجعةٍ عند سيفِ الدَّولة، ممدوحه الأسخى، والأجزل عطاءً!ويُقال - والعهدة على الرُّواة، والرُّواة غالباً ذممهم أوسع من شروال جدّي- أنّ المتنبِّي لمّا غادر حلب إلى مصر، كانت حدواتُ حصانه من الذّهب بفضلِ سخاء سيف الدولة، ولكنّ السُّلطة شهوة هي الأخرى، ولم يستطعْ ذهب سيفِ الدَّولة أن يثني المتنبِّي عن وعد كافور له بالولاية! ولمّا كان الأمر كذلك، اصطنع المتنبِّي حزناً وندماً وشوقاً يسبقه إلى بلاط سيف الدَّولة!
فالأحبة الذين «البيداء دونهم» ليس إلا ذاك الأمير الحمدانيّ الذي كان يستثمرُ في الشّعر، لأنه كان يعرف أنّ الشِّعر أبقى من الذّهب! وبالفعل لولا المتنبِّي ما سمع بسيف الدّولة أحد!
المهم، لا يعتقدّن أحد أنّي ناقم على المتنبي، أنا ناقم على ظاهرة التّكسب في الشّعر، وتمريغ القوافي في بلاط الأمراء، وهذه ظاهرة لم ينجُ منها إلا قلة، كان منهم عمر بن أبي ربيعة، الذي يوم أرسل له عبد الملك بن مروان ليمدحه، قال له: عمر لا يمدح إلا النساء! أما من ناحية الشّعر فالمتنبِّي أحد أساطين الشّعر، أدركَ من كان قبله ولم يلحقه من أتى بعده! لا داعي لاستحضار الحزن كلّ عيد بالاتكاء على بيت المتنبِّي، فلم يكن الرجلُ حزيناً كما أخبرتكم، ثمّ من أراد أن يلطم ويبكي، ففي بقية العام متّسع لهذا، هذه الأمة تعطينا كلّ يوم ذريعة للنّدب والبكاء! أما اليوم فدعكم من المتنبِّي، وخذوا بقول جدّتي: لا تفرحوا في أحزان النّاس، ولا تحزنوا في أفراحهم!
وكلّ عامٍ وأنتم بخير