روى ابن الجوزي في صفة الصفوة:
سبى الرَّومُ نساءً مسلماتٍ، وبلغَ الخبرُ الرَّقة، وبها الخليفة الرشيد، ومنصور بن عمَّار وزيره.
فإذا خرقة مصرورة مختومة قد اُلقيتْ إلى منصور، وإذا كتابٌ مضموم إلى الصُّرة، فحملها منصور إلى الرشيد، فإذا فيها:
إني امرأة من أشراف العرب، وقد بلغني ما فعلَ الروم بالمسلمات، وبلغني أن أمير المؤمنين يُحدِّثَ نفسه بالغزو، وتعمدَّتُ إلى أكرم شيءٍ في بدني، وهما ذؤابتاي، فقصصتهما، وصررتهما، وأسألُكَ بالله أن تجعلهما قيد فرسٍ غازٍ في سبيل الله، فلعلَّ الله تعالى أن ينظر إليَّ فيرحمني!
فبكى الرَّشيدُ حتى بلَّ لحيته، ثم قام فنادى: يا خيل الله اركبي، فقد عزمتُ على غزو الروم!
وجعلَ الضفيرتين قيداً لفرسه!
اِجعَلْ لكَ سهماً في الخير مهما كان ضئيلاً، فإن لم تستطِعْ فدُلَّ الناس عليه على الأقل! وإن عجزتَ عن هذا وذاك فبدعاء، الدعاء ليس حيلة العاجز ولكنه حيلة المؤمن! على أن المؤمن العامل أحبّ إلى الله من المؤمن القاعد، وإن كان الإيمان على كل حالٍ خير!
لعلّكَ لست طبيباً يمكنه أن يُعالج ولو مريضاً فقيراً واحداً دون مقابل في الأسبوع، ولكن يمكنك أن تجعل لكَ سهماً في هذا الخير، علبة دواء واحدةٍ في الشهر لمريض، وما من حيٍّ إلا وفيه مريض فقير!
ولعلّكَ لم تُؤتَ ذاكرةً لحفظ القرآن، أو لعلَّ الدنيا أشغلتكَ، ولكن في الحيِّ دار تحفيظ، وما من دار تحفيظ إلا ولها نفقة، يمكنك أن تجعل مبلغاً شهرياً بمقدار «فاتورة حساب» جلسة واحدة في المقهى، وبهذا يكون لكَ عود في الحزمة، وسهمٌ في الكنانة!
ولعلّكَ لستَ قاضياً ولا محامياً، ولا يمكنكَ أن تنصفَ مظلوماً، أو تعيدَ حقاً مسلوباً، ولكن ما منا من أحدٍ إلا ويعلم عن خصامٍ بين زوجين، أو أخوين، أو جارين أو صديقين! فبادِرْ بتقريب وجهات النَّظر، وضيّقْ مساحة الخلاف، واسعَ بالصلح، فقد يفتح الله على يديكَ قلوبا أغلقها أصحابها بأقفال الحقد، وسواء أثمرتْ مساعيك وأينعت فالأجر واقع، وإن الله تعالى يُجازي على السَّعي لا على النتائج!
لن يحملَ كل الناس البنادق دفاعاً عن هذا الدين، ولكن دعم المجاهدين بالمال والدعاء ميسور! ولن يرفع كل الناس الأنقاض عن ضحايا الكارثة، ولكن المال معونة، والدعاء يد! ولن يستطيع أحد أن يُعلِّمَ كل الطلاب الفقراء، ولا أن يكفل كل الأيتام، ولا أن يُعالج جميع المرضى، ولكن يمكنه وببساطة أن يُغيِّر حياة إنسان واحد، وهذا عمل عظيم جداً!
