+ A
A -

يشهد العالم الآن عملية تحول كبرى، ويعيش مرحلة ترقب فاصلة بين عهدين، عهد القطب الواحد يحزم حقائبه للمغادرة وعهد متعدد الأقطاب يتأهب للتمكين، فلم يعد مقبولا من وجهات نظر عدة أن يدير العالم طرف واحد لا يرى غير مصالحه، يعطي لنفسه ما يمنعه عن الآخرين، ولا يختلف اثنان على أن مشروع العولمة أصبح في خبر كان، ولم يبرح كونه فكرة في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب، هدفها الخفي كان ترسيخ نظام القطب الواحد، أما ما يجري الإعداد له الآن فهو والعولمة على طرفي نقيض، إذ يتبلور تكتل أو قطب سياسي اقتصادي آخر قوي في مقابل أميركا وأوروبا، يمتلك أكبر مساحة يابسة وأكبر احتياطي نفط وغاز وأكثر سكان، يرى العالم شمسه بازغة بالفعل، تقوده الصين وروسيا والهند، هدفه الرئيسي إحلال نموذج نقدي عالمي جديد محل الحالي، ليس فيه حق الهيمنة لعملة معينة على بقية عملات العالم، ولا على السياسة النقدية الدولية، يستهدف في المقام الأول تقويض هيمنة الدولار.

وللتوضيح يجدر التذكير بأن اتفاقية برايتون وودز الاسم الشائع لمؤتمر النقد الدولي التي وقعتها أربع وأربعون دولة بعدما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها نصت على أن يكون تثبيت أسعار صرف عملات العالم أمام الدولار مقابل ربط الأخير بالذهب، أي يمكن لسلطات النقد في أي دولة استبداله من أميركا بالذهب، فمنحته مكانة عالية أجلسته على عرش العملات، وأخذت السياسات النقدية الأميركية التي لا تفكر إلا في مصلحة 330 مليون أميركي على حساب مصالح ثمانية مليار إنسان تنفذ إجراءات حولت الدولار من كونه عملة تخدم هدف الوثيقة المالية إلى عملة تخدم هدف الهيمنة الأميركية، أضيف إلى هذا إعلان الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون فك ربط الدولار بالذهب في الخامس عشر من أغسطس 1971 ليعطي الدولار قوة دفع ذاتية، دون الحاجة إلى سند من المعدن الأصفر، وقال قولته التي تعكس الشعور بجنون العظمة «قوة الدولار لا تُستمد من الذهب ولكن من قوتنا السياسية والاقتصادية»، وكان آخر من أخذ ذهبا مقابل الدولار الرئيس الفرنسي شارل ديغول.

وفي عام 1974 في ذروة أزمة النفط العالمية، توصلت أميركا مع دول الأوبك بقيادة السعودية إلى اتفاق يتم بموجبه تسعير كافة الصادرات النفطية إلى أميركا وغيرها بالدولار، ولم يتوقف الأمر عند البترول فقط، ولكن تعداه إلى كل المبادلات التجارية للسلع والخدمات لتتم بالدولار، وعليه أصبحت احتياطات النقد الأجنبية للدول حتى وإن كان داخلها الذهب والقليل من العملات الأخرى تحسب بالدولار، وكان مهندس هذه الاتفاقية هنري كسينجر وزير خارجية أميركا وقتها، الذي هدد بتدمير أي دولة تبيع النفط بغير الدولار، وهكذا تحققت لأمريكا القوة الاقتصادية بجانب القوة العسكرية وهما العنصران اللذان يمكِّنان من يمتلكهما من قيادة العالم.

في الطرف الآخر من الكرة الأرضية جهة الشرق يوجد تكتل غير راض عن هذه الهيمنة، يتكون من الصين وروسيا والهند، أخذوا يخططون بهدوء ودون ضجيج إعلامي لإعداد نموذج نقدي جديد يطيح بالدولار من على عرش السياسة النقدية العالمية، ويتحينون الفرصة لطرحه وإماطة اللثام عنه.

والآن حانت الفرصة، وفرتها الحرب الروسية الأوكرانية، وأزاحت الدول الثلاث الستار عن النموذج الجديد، إذ أعلنت أن المبادلات التجارية بينها ستكون بالعملات المحلية، فطرحت بورصة شنغهاي أسعار النفط باليوان وأعلنت روسيا اعتماد الروبل في معاملاتها التجارية، واتفقت الهند مع ماليزيا ودول أخرى على اعتماد الروبية، وانفتح على هذا التكتل الجديد العديد من الدول منها المملكة العربية السعودية وإيران ومصر وفنزويلا والأرجنتين وغيرهم من دول القارتين الأسيوية والأفريقية التي حُرِقت أصابعها بنار الدولار، وهكذا اندق المسمار الأول في نعش الهيمنة الدولارية.

على أثر هذا قامت الدنيا في أميركا الآن ولم تقعد، والمسؤولون أقبل بعضهم على بعض يتلاومون، فلا حديث في برامج إعلامها وتصريحات مسؤوليها إلا عن مصير الدولار بعد إزاحته من على عرش العملات ليكون عملة محلية، ومصير الاقتصاد الأميركي الذي سيتهاوى، على سبيل المثال مونيكا كراولي مساعدة وزير الخزانة السابقة ألقت باللائمة في لقاء متلفز على الفيدرالي الاحتياطي ومديري السياسة النقدية الأميركية في السنوات الأخيرة، واصفة ما يجري من الصين وروسيا والهند بعاصفة قوية ضد أميركا، مؤكدة أن ما سيحدث لأمريكا وضع كارثي يفوق أي تصور، فالدولار سيكون عديم القيمة والتضخم سيبلغ عنان السماء، وبقي تصريح واحد فقط لينهار الاقتصادي الأميركي والاقتصاد العالمي وهو أن تعلن السعودية بيع النفط باليوان، حتى الرئيس السابق ترامب علق في مؤتمر صحفي مؤخرا منتقدا سياسة بايدن قائلا: الدولار ينهار وأمريكا العظمى تتهاوى بسبب تدخلنا في النزاع الروسي الأوكراني، ومارك لوكس عضو وحدة البصيرة في المفوضية الأوروبية صرح بهزيمة الدولار واليورو أمام اليوان والروبل، وأشارت برامج كثيرة إلى أنه قبل عشرين عاما كانت المبادلات التجارية العربية/‏ الأميركية تعادل ثلاثة أضعاف التبادلات التجارية العربية/‏ الصينية، وفي عام 2021 انعكس الوضع.

اختم بالنسبة لنا كعرب في تقديري سنكون رقما صعبا في العهد متعدد الأقطاب، العرب وحدهم بما لديهم من احتياطي الطاقة يمكنهم ترجيح كفة على أخرى إذا ما تم التنسيق العربي المشترك في التبادلات التجارية، سوف نتابع ونترقب وسيكون لكل حادث حديث.

بقلم: د. بثينة حسن الأنصاري خبيرة تطوير التخطيط الاستراتيجي والموارد البشرية

copy short url   نسخ
10/04/2023
145