هناك قلوب يسكنها الحزن كالمقابر، ونفوس كالأعياد لا يسكن بجنباتها سوى الفرح ولا تجاور سوى السعادة، وهناك عقول لا تقبل سوى ارتداء دثر الرجاحة، وأخرى عارية سوى من التقمص بقمصان الخيبة.
هناك أفئدة اعتنقت تخليد الضيق في الصدور وأرواح احترفت الشقاء، بيد أن ثمة ضمائر أضمرت نشر الخير لعالمين.
ومن أفدح ما يصاب به المرء هو فجيعته في عدم تحقيق أهدافه، فهناك كم هائل من البشر يأتي ويروح دونما أدنى بحث عن كنوز الذات، بحيث أن جل آماله أن يأكل من خشاش الدنيا، بل ويتفاخر باضمحلال طموحاته ويريد إقناعنا أنه زاهد تفوق.
والناس قد يفهمون بالأثر النفسي ما لا يدركون بحواسهم. وأقسى ما يستطيع إنسان أن يعيه هو يقينه انه مهما أنفق من عمره إلا أن قدراته لن تكافئ طموحاته وأن إمكاناته لن تسعف أهدافه.
هنالك يتهول بؤس الإنسان بل يتغول حينما يفجع بالإخفاق في بلوغ مرامه، كمن حسب نفسه مشروع شاعر وهو حتى ليس بناثر أو كعازف القيثارة في رائعة دوستويفسكي «ذكريات طفلة» الذي تنبأ أن سيمفونياته ستكون أخلد من أعمال «فاغنر» ثم لم يلتفت إليها أحد، فانتحر!
فالإنسان تضيع منه حقبة من حياته، سواء طفولته أو شبابه، دون تمكنه من معرفة نقاط قوة شخصيته فيعيش دونما أي التفاتة لأهمية قضية البحث عن ثروات الذات اللهم إلا حال تخرجه حين يجد نفسه وقد حصل على شهادة علمية لم تشهد له بأحقيته في عمل يضمن له حياة كريمة.
فندر من الأهل من تأهل في التنقيب عن مواهب أبنائه. فكثر من الآباء لا تتعدى جهودهم تجاه أبنائهم سوى إحاطتهم بالرعاية بحيث ودوا لو يحممونهم بعطر وينشفونهم بنور ويغلفونهم باستبرق. على أن نتائج هذه العناية السوبر فائقة لا تسفر إلا عن شخصيات منمطة لا تجيد سوى تعميم تحيات المساء:
BON NUIT PAPA، GOOD NIGHT MAMAN
أما تاريخ الناجحين فيشهد على أنهم حادوا عن السطر وفكروا خارج الصندوق العائلي ورفضوا الانصياع لحياة النمط المثالي الملكي التي يستيقظون فيها باكراً وينامون كالداجن قبيل العشاء.
فالنوابغ كانت لهم مساحة من الحرية لو لم تتوفر لهم لابتدعوها ولربما حاربوا من أجل الحصول عليها، وبالطبع فقد دفعوا ثمناً بالغاً لها.
هذه المساحة من الحرية أتاحت لهم فرصة البحث عن ذواتهم وعما يريدون هم لا ذووهم من الحياة وأي طريق يسلكون، كما سمحت لهم بالتجربة واقتراف الأخطاء وتصويبها ثم المزيد من الأخطاء التي تنجب صوابات.
بعضهم عافر ونافر أهله وبعضهم وجد الدعم، إلا أن جميعهم ضاعف الجهد.
فمثلاً نجد أن الأديب العالمي توفيق الحكيم ذكر في كتابه «زهرة العمر» انه لم يوفق في الحصول على الدكتوراه في الحقوق واعترف بأنه عاش فشلاً مدوياً في حياته كونه فعل كل ما لم يرض والده وكل ما جعله يفشل في امتحانات الدكتوراه؛ فقد كان يقضي وقته بين زيارة اللوفر كل أحد كما كان يحضر مسرحيتين كل أسبوع، بالإضافة لحضوره حفل موسيقى، عدا مصاحبة الفنانين والنقاد.
وقد خاب الحكيم في نظر والده في أن يصبح مجرد محامٍ حاصل على دكتوراه إلا أنه خلد اسمه في أدبيات الفكر والأدب العالمي.. لقد أمن بنفسه وأعطى لها حق الخطأ وحق اختيار الطريق، فوصل.
كذلك قيل للفنان عبدالوهاب من بعض أقاربه المحافظين: اترك الموسيقى فإنها حرام، «فكان يجيبهم بثبات:
سألوا حكيم؟ أي أنواع الموسيقى حرام؟!
قال صوت الملاعق في صحون الأغنياء عندما ترن في آذان الفقراء!
قلة من البشر تجد الجرأة في نفسها للتمسك بموهبتها. فكن مع نفسك وأنصف حالك حتى تصل لدرب النجاح فتسكنك السعادة كما الأعياد.
- كاتبة مصرية

بقلم : داليا الحديدي