+ A
A -
اتسمت سياسة أميركا الخارجية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، بتوجه صريح ارتكز في عهود مختلف الرؤساء منذ هذا التاريخ وحتى عام 2016، على دعم الأصدقاء، ومواجهة الأعداء، في إطار تصنيف واضح لمن هو الصديق، ومن هو العدو.
ثم لوحظ مع بداية عام 2017، وتولى ترامب الرئاسة، خفوت الوضوح في التمييز بين الصديق والعدو.. كانت بدايته تشكيك ترامب في جدوى حلف الأطلنطي، محور التحالف التاريخي للغرب، والأساس الذي يقوم عليه الترابط السياسي والثقافي والحضاري بين أميركا وحلفائها الغربيين.. والذي يمتد على طول خط المواجهة مع العدو السوفياتي القديم، وما ظهر من أن ترامب لم يعد يعبأ بالتحالفات والصداقات التقليدية، بأحاديثه عن احتياج أميركا لتحالفات جديدة، وصداقات جديدة.. مما يشير إلى أن المفاهيم التقليدية في سياسة أميركا، لمن هو الصديق أو العدو، يمكن أن تتغير، وتكتسب مواصفات جديدة.
ولعل أكثر ما يلقى ضوءاً على مضمون هذه المفاهيم، ما ظهر من أن شعار «أميركا أولاً»، يحتل أولويات سياسته الخارجية، وهو المبدأ الذي يقوم على بناء التحالفات والصداقات، على أساس المصالح أولاً وقبل أي شيء آخر.
ولما كانت التحولات السياسية والاستراتيجية، لا تأتى بين يوم وليلة، لكنها نتيجة تطورات متدرجة، تأخذ وقتها حتى تنضج، فالملاحظ أن مفهوم المصلحة والمنفعة كان قد تم تدشينه كبديل عن مفهوم الأيديولوجية، الذي كان يحكم الصراع بين العدوين في سنوات الحرب الباردة، وحتى انتهائها عام 1989.
وطوال السنوات التي تلت ذلك، شغلت مراكز البحوث والمنتديات السياسية، بمناقشات في مؤتمرات، وندوات، وورش عمل، حول هوية العدو الجديد البديل عن الاتحاد السوفياتي..
لكن هذه الجهود تعثرت أمام صعوبة إيجاد صياغة نهائية لهوية العدو، باعتبار أن ذلك سابق لأوانه، بينما العالم سيظل في حالة تفاعل لفترة قادمة قد تطول إلى عشرين سنة قادمة قبل أن تتحدد ملامح النظام العالمي الجديد، ومواقع القوى الدولية الفاعلة فيه.
من ثم فشلت محاولات بوش الأب، وبيل كلينتون لصياغة استراتيجية جديدة، تحل محل استراتيجية الصراع.. وحين تولى بوش الابن عام 2001، حاول، من خلال المنظور الأيديولوجي لشركائه في الحكم من المحافظين الجدد، فرض رؤيتهم القائمة على الهيمنة على العالم، عن طريق استراتيجية الأمن القومي الجديدة التي أعلنها البيت الأبيض عام 2002، والتي لم يقدر لها البقاء، وسقطت بسرعة مع نهاية حكم بوش، لأنها أغمضت عينيها عن أن العالم يتغير، ولن يتقبل استمرارية هيمنة قوة واحدة أياً كانت.
ثم خلفه أوباما الذي ترنحت أفكاره في السياسة الخارجية، وامتلأت بالتناقضات وغياب الرؤية الاستراتيجية المتكاملة، في مواجهة ظروف دولية، سببتها تحولات متسارعة ومفاجئة جعلت زمام الإمساك بالأوضاع الدولية يفلت من يد أميركا.
وربما كان ذلك أحد أسباب شق طريق وجد ترامب نفسه يمضى فيه، وكأنه واقع مفروض عليه، نتيجة لبدايات التحولات السياسية التي نشطت منذ نهاية عصر الحرب الباردة، وما تبعها من آثار في كثير من مناطق العالم، من أهمها ظهور أطراف منافسة لأميركا، في النفوذ وفي القدرات السياسية والاقتصادية وفي مقدمتها الصين.
وإذا كانت أولى مؤشرات التغيير في معنى العدو والصديق، قد لاحت بوادرها في استراتيجية السياسة الخارجية لبوش عام 2002، بمسمى الحرب ضد عدو محتمل، والتي تعنى أن هذا العدو ربما يكون وقتها صديقاً، فإن التطبيق العملي لتغيير مفهوم الحليف والصديق، وما يرتبط به من احترام الالتزامات التاريخية تجاه أمن ومصالح هذا الحليف والصديق، قد بدأ في عهد أوباما الذي كان يراعى في قراراته، تجنب أي إجراء يؤثر على مصالح أميركا، وما نشر في دراسات أميركية من أن المشاكل الداخلية التي تزايدت في عهد أوباما، أصبحت تسبق أي محاولة لتبديد أموالها وجهودها على أي نزاعات خارجية.
في هذه الظروف ترددت مقولة أن مصطلح الحليف والصديق التقليدي، أصبح غير ذي موضوع في عالم اليوم، فبريطانيا مثلاً حليف قديم، لكن أهميتها لأميركا أقل من أهمية الصين، نتيجة الاعتماد المتبادل المتزايد تجارياً واقتصادياً، وهو مجال لم تتبلور حتى الآن رؤية ترامب بشأنه، وإن كانت «المصلحة» سوف يكون لها التأثير في خياراته النهائية.
إن مفهوم المصلحة، وأميركا أولاً، لابد أن يتأثر بسبب تداخل المصالح الاقتصادية، مع شركاء آخرين لأميركا في العالم، ومنهم شركاء في العالم العربي.
ولما كانت السياسة الخارجية الأميركية في عهد أي رئيس كان، يحكمها مبدأ توازن القوى، فإن تفعيل مبدأ المصالح– من وجهة نظر عربية تبنى على قاعدة استراتيجية متكاملة– لا بد أن يحدث التوازن، الذي يضع هذه المصالح في الحسبان، من زاوية النظر الأميركية.. وإذا كانت المصلحة كأولوية سياسية ستحكم توجهات سياسة ترامب، فمن المفترض أن تكون هناك خريطة طريق عربية للتعامل مع الإدارة الأميركية الجديدة، وفقاً لقاعدة لغة المصالح التي تتبلور الآن لديهم. فلا يمكن أن تدار العلاقات بين طرفين أحدهما يطور من مفاهيمه لهذه العلاقة، والآخر ساكن، لايزال يدير علاقاته معه، إما وفق أنماط لاتزال قديمة للسياسات الخارجية، قد بطل مفعولها، وإما بانتظار ما سيفعله الطرف الأول.. ثم يكون لنا في النهاية رد الفعل.. مجرد رد الفعل.
بقلم:عاطف الغمرى
copy short url   نسخ
05/05/2017
3707