+ A
A -

إن الحداثة التي هيمنت على كل شيء وغيرت من مجرى الأحداث كثيرا مضفية عليها نكهة العصرنة؛ أبت أن تحاصر شهر رمضان، هذا الموسم الديني الثقافي الخاص الذي مازال محافظا على خصوصيته وهويته المميزة، رغم كثير من المظاهر التي تسللت شيئا فشيئا فضيعت جزءا يسيرا من تلك النكهة الأصيلة، ورغم هذا الزحف البطيء لمظاهر الحياة الاستهلاكية الجديدة، إلا أن رمضان يبقى حكاية ينتظرها أهل قطر لتروي لنا عن عبق الزمن الماضي، وما زخر فيه من قيم نبيلة عتقها التاريخ؛ لتظل صامدة أمام رياح التعرية والترسيب.

إن التراث القطري يشمل على عدد كبير من العادات والتقاليد و(السوالف) الشعبية المرتبطة بشهر رمضان المبارك، ففي هذا الشهر تشهد مدن قطر وكافة ضواحيها نشاطا ودبيبا خاصا؛ يعج بالأنشطة الدينية والثقافية ومظاهر التكافل الاجتماعي الرائعة التي تمتد إلى خارج قطر، لتشمل إغاثة المنكوبين من أبناء الإنسانية جمعاء في هذه المعمورة. إن دورة اليوم الرمضاني في قطر، كانت ومازالت، تبدأ بصوت (المسحر)، هذه الشخصية التي يتفرد بها ليل رمضان الدامس الذي يضيء بصوت المسحر، جائبا في (الفرجان- الأحياء) والطرقات، قارعا الطبل ومشديا بصوته العذب: «لا إله إلا الله، محمد يا رسول الله، لا إله إلا الله، سحور يا عباد الله، لا إلا الله، قوم تسحر، قوم صوم، لا إله إلا الله، قوم تسحر بالمقسوم»، وهكذا فإن دورة الصيام تبدأ مع هذا المنادي العتيق، إلى تناول طعام السحور وعقد نية الصيام ومن ثم استعداد الأسرة لصلاة الفجر.

ويمكن القول، إن من أبرز المظاهر التي تتسم بها الحياة الرمضانية في قطر، هو المحافظة على تقاليد (سفرة) الإفطار العارمة التي ما زالت تلتزم بمكونات الإفطار النبوي المكونة من اللبن والتمر، ويضاف على هذه العناصر الأساسية عدد من الأطباق التي تعد خصيصا لمائدة رمضان التي تخبرنا الكثير عن الأطباق التي توارثتها الأجيال جيلا بعد جيل، رغم أن المائدة الخليجية تأثرت كثيرا بالحداثة وأصبحت الأسر تقدم مزيجا من الأطباق العالمية على موائدها إضافة إلى اتكائها على وجبات المطاعم السريعة، ورغم ذلك يبقى لشهر رمضان نكهته الخاصة التي تبرز كثيرا في الطعام التقليدي الشعبي الذي تحرص على صنعه الأسر حتى يومنا هذا، فتجد أن المائدة القطرية يتسيدها «الثريد»، هذا الطبق الذي يعود كذلك بجذوره إلى السنة النبوية الشريفة، الأمر الذي يدل على أن أبناء هذه المنطقة ما زالوا يتبعون النهج النبوي الغذائي، فعن أبي موسى رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء: إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام». فالثريد إذن - وهو الخبز المفتت مع المرق، يعتبر من الأطعمة الرئيسية في المائدة القطرية الرمضانية، أما الأطباق الرئيسية الأخرى فتشمل التالي: «المجبوس، الهريس، السمبوسة، المرقوقة، المظروبة، الخنفروش، اللقيمات، الساقو، الشربت، المحلبية، الجلي، البلاليط، الخبيصة، البثيثة، البرنيوش، الجريش، كباب نخي، الزلابية، الألبة»، فهذه الأطباق الموسمية تعد الشامة المميزة لـ (سفرة) رمضان التي تحرص الأسر على مشاركة أصنافها الأساسية قبيل أذان المغرب، حيث ترسل كل أسرة بعدد من الأطباق للأهل وللجيران في (الفريج- الحي) كنوع من التآخي والتكافل الاجتماعي الرائع وكطقس اجتماعي لم تضربه رياح العصر والتغريب.

ويتميز رمضان قطر، بأنه مهرجان ديني ثري؛ يحرص فيه الصغير والكبير، الرجال والنساء؛ على أداء الفروض والنوافل وحضور حلقات الذكر ودروس تلاوة وحفظ وختم القرآن الكريم والتضرع لله بالدعاء في (التراويح والقيام وليالي القدر)، الأمر الذي يجعل صيام الشهر الفضيل؛ تجربة روحية عميقة أكثر منها جسدية، تطهر الجسد والروح من كل السموم والشوائب، فرمضان، المنتظر كل عام، يعد منتجعا صحيا وروحيا؛ يضفي على الروح الإنسانية سموا ورقيا هائلا.

إن رمضان موسم اجتماعي مزدحم جدا، فـ (الزوارات) والولائم والـ (عزائم) لا تنتهي، حيث تحرص كل الأسر على الاجتماع في (البيت العود) وهو بيت الجد وذلك نيلا لدرجة صلة الرحم، وكسبا للأجر والثواب المضاعف في الشهر الفضيل. كما تحرص الأسر على الاجتماع بالأصدقاء والمعارف، وتمتين الصلات التي تكون قد تباعدت وفترت خلال أشهر العام، بسبب زحام الحياة العملية والعلمية خلال العام، وعادة ما يكون هذا الاجتماع متمثلا في طقس الـ (غبقة) -وتعني العشاء الرمضاني المتأخر الذي يسبق وجبة السحور ويعقب صلاة العشاء والتراويح- فهي تعني الوليمة التي تؤكل عند منتصف الليل،

ومن العادات التي يتمز بها رمضان الطيبين، هي عادة إحياء ليلة النصف من رمضان بطقس (القرنقعوه)، وهي من العادات المترسخة منذ مئات السنين، فالقطريون مازالوا يحرصون على الاحتفال بالـ (قرقيعان) سنويا.

قارئي العزيز، وحده رمضان يحدث فيه أن يعانق الماضي الحاضر، فيه عبق أصيل من روائع الحضارة الإسلامية الخالدة، وفيه رائحة الحنين لأيام الزمن الجميل؛ زمن الأجداد والآباء، زمن الأصالة العتيد، لياليه قطعة فنية مستوحاة من فنتازيا (ألف ليلة وليلة)، فإذا أقبل ليل رمضان بظلامه وسوده الجميل، اندلعت في كل مكان روائح تنسج من سواده برد الضياء الوضاح، حيث يمتزج في تلكم الليالي؛ رائحة اللحم الذي يشوي علي الـ (منكل) وخبز الـ (رقاق) الطازج الذي ينضج علي الـ (تاوة) برائحة العود والبخور والـ (مشموم) والفل والورد المحمدي، لتجعل من نسمة هواء رمضان؛ نسمة عليلة خاصة لا تتكرر إلا في داجية حلكته المنيرة.

إننا عاما بعد عام نشتاق، كما لم نشتق من قبل، إلى حلول شهر الرحمة والغفران «رمضان»، لنعقد النوايا «إن كتب لنا» أن نصومه إيمانا واحتسابا، ونجدد فيه الروح التي أرهقتها الذنوب والمحن، متضرعين بالدعاء إلى المولى عز وجل؛ أن يكون حلوله علينا مليئا بالخير والوئام والاطمئنان وعلى جميع إخواننا المسلمين، وأن يغفر لكبيرنا وصغيرنا، حينا وميتنا. فاللهــم يا رب شهر الطيبين الأخيار، شهر العتق من النار، تقبل منا الصيـام والقيـام وقراءة القـرآن، واجعل قلوبنا تخشع من تقــــــواك، واجعل عيوننا تدمع من خشيتك، واجعلنا يا رب من أهل التقوى وأهل المغفـــرة[email protected]

copy short url   نسخ
26/03/2023
160