+ A
A -
أحببتُ أسمرا، لكن غريمي أحبّها، وأحبّ «سمراويت» وبث للاثنين كل لواعج روحه العاشقة، في رواية أنيقة، وسُكرة، حملت عنواناً ما بين الهلالين، (سمراويت)، آه حين يتخاطف اللون الواحد، لونان، آه، حين يكون الأب إريترياً، فيه كل تفاصيل إريتريا الثورة والصوت الخفيت، وتكون الأم من بلد الأرز وفيروز وصخرة الروشة، وجبران، وسعيد عقل، وميريام الأرنؤوطية!
كنتُ، من عاشقي أسمرا، غير أنّ غريمي في العشق، صيّرني عاشقاً، وأكثر. كنت لا أعرفُ (سمراويت) خاطفة اللونين واللهاتين، غير أن غريمي في عشق تلك المدينة الهامسة، صيّرني عارفاً.
ياااااه، ما أكرم المعرفة، تلك التي تتنزّل عليك حرفاً حرفاً.. جُملة جُملة، تملؤك كُلك- أولك وآخرك- وتزيد فيك الفضول، فضولا!
صاحبي.. صاحب (سمراويت) التقيته- أول ما التقيته- في أسمرا. كانت حبات المطر، تتساقط على وردة.. تحكي حكاية الدعاش لعطر وردة، وكان هو بعينيه اللامعتين، يمارس نعمة الدهشة- في يومه الثاني أو الثامن- وهو يكتشف أن له وطناً بكل هذا الجمال!
- يااااه.. ما كنتُ أعرف أن لي وطناً بكل هذا....
تلك جُملة شاعر.
قلتُ ذلك بيني وبين نفسي.
ما استوقفني- أيضا- أنّني لمحتُ بأذني، في صاحبي هذا- الذي يكلمني الآن- لهاتين تتنازعان أي كلمة فيه، منه، يتحرك بها لسانه: لهاتان، في كل واحدة منهما تاريخ.. وفي كل واحدة منهما حاضر.. وفي كل واحدة منهما أثر.. وفي كل واحدة منهما مآثر، وفي كل واحدة منهما تأثير!
لخبطني.. وكانت جملته قد لخبطتني.
- حسبتك خليجياً!
- لو كنت قد دققتُ، في لهجتي، لكنت قد قلت سعودياً!
لا.. لم يمهلني لأدقق، وأحسب من جديد. كانت ابتسامته لا تزال تُجمّل المسافة من فمه إلى أذني، حين لامست مسامعي اللهاتان:
- السعودية وطني الافتراضي، لكن إريتريا وطني الذي أعود إليه الآن، لأسترجع ملامح طفولتي الأولى- لأول مرة- بعد كل هذا العمر.. بعد كل هذا الغياب!
في الاكتشاف دهشة.. لكن لئن تكتشف وطنك- لأول مرة- هو أن تكتشف العالم كله. هو أن تكتشف الوجود. هو أن تكتشف الدهشة ذاتها.. هو أن تكتشف ذاتك من أول جديد. هو أن تكتشف الجمال، وتكتشف الحب، وتكتشف الحبيبة.
لو لم يكن صاحبي- حجي جابر- قد اكتشف بعد كل هذا العمر، أن له وطناً بكل هذا الجمال، ما كان قد اكتشف (سمراويت).. وما كان قد اكتشف كل هذه اللغة الصافية.. كل هذه المفردات الأنيقة.. كل هذه الجُمل الطاعمة.. كل هذا الإيحاء العجيب.. كل هذي الإشارات.. كل هذا التماهي.. كل هذا الحضور.. كل هذا الغياب في (سمراويت).. وما.. وما كانت- في المقابل- سمراويت قد اكتشفت صاحبي.. واكتشفت ذاتها.. واكتشفت- تاني من تاني- وطنها.. واكتشفت لبنان!
تتداخل الجيناتُ، في الجينات. يتداخل اللونُ في اللون. تتداخل اللهاةُ في اللهاة. اللغةُ في اللغة.. لكن للجينة الأولى، واللون الأولاني، وكذا للهاة، واللغة الأم، سحرٌ أخاذ، وسطوةٌ، مثل سطوة الحب، مثل سطوة القدر!
كان- في البدء- القدر. كان يريدُ أن يلعب لعبته،
وكانت أسمرا، بكل سحرها، وجاذبيتها، ونداءاتها الدافئة، العجيبة، وفتنتها، وإغوائها
وكان المطر
وكانت أنفاسُ الوردة
وكان الحنينُ الغامض..
وكان مقهى(مودرنا).. وكانت (سمراويت) وكانت النادلة والكابتشينو بالرغوة، وكان هو.. وكانت رواية (رحلة الشتاء) لمحمد سعيد ناود هي المدخل الجميل، للاثنين معا، وكانت.. كانت الرحلة بلهوات أربعة.. بل خمسة: هي بلهاته الإريترية والسعودية.. وهي بلهاتها الإريترية واللبنانية والفرنسية، وكان الخروج صعبا!
لا، لم تكن صدفة.
الصدفة وحدها لا تُنجبُ روائيا.. والصدفةُ وحدها لا يمكن أن تُحيي التاريخ دفعة واحدة، وتُحيي الحاضر، وتفتح المستقبل، على كل الاحتمالات العجيبة.. وتربط بين وطن حقيقي ووطن افتراضي، وتُقلب كل أولئك رأساً على عقب!
لا، ولا يمكن للصدفة -وحدها – أن تكتب قصة حب بين اثنين، أحدهما يكتشف وطنه لأول مرة، والآخر يكتشفُ في هذا الآخر، طعم الوطن، وطعم الحياة، وطعم الوجود!
لا.. كان كلُ شيء، مرتباً منذ الأزل. وكان أنيقاً جداً.. وكان بهياً.. وكان صاخباً، وكان هادئاً، وكان جهير الصوت، وكان هامساً، وكان.. وكان في جمال أسمرا، وفتنتها.
(سمراويت) ليست مجردُ رواية، إنها اكتشاف، اكتشاف باهر لوطن.. واكتشاف باهر للحب، واكتشاف باهر للحبيبة، واكتشاف باهر لمعنى الحياة.. وهي- وهذا مهم أيضا- اكتشاف لروائي إريتري، وطنه الافتراضي السعودية..
روائي اسمه حجي جابر!
بقلم : هاشم كرار
copy short url   نسخ
18/04/2017
922