+ A
A -
لا يوجد شيء في قاموس الكلمات ولا في بحر اللغات قادر على وصف جريمة النظام السوري في خان شيخون، تعجز العبارات وتختفي التعبيرات لوصف مشهد تجاوز المشاعر والدموع وأدمى قلوب العالم الإنساني ولم يحرك شعرة من جسد المعتدين ومؤيديهم والصامتين بدون أحاسيس أو مشاعر كصمت القبور..!
أمام جثث الأطفال، تنطفئ اللغة، وتتلاشى العبارات، وسط أشلاء الجثث ومن تبقى من المختنقين وسط حالة مرعبة وذعر وهلع ومنقذين تائهين مصدومين من هول الموقف.. أفواه صغيرة يخرج منها زبد غاز السارين، بعضها لم يتعلم النطق بعد، لتشهد على هول الجريمة، أو لتنطق الشهادة بعد أن سممها النظام الطاغي وهي في عمر الزهور..!
لا يوجد شيء قادر على وصف دموع الرجال، وبكاء النساء، حزنا وألما، ومن لا يتألم أمام طفل صغير خنقته غازات نظام جائر متوحش، لم يراع دينا ولا قيما ولا أخلاقا وهو يضرب الأبرياء بأشد الأسلحة فتكا وهمجية.
لم يعد للكلمات معنى، أو بالأحرى لم تعد قادرة على التعبير عن المعنى، فما رأيناه لم يفعله أحد على مر التاريخ الإنساني كما نعرفه ونقرأه، إنه «الماركة المسجلة» لنظام الأسد وحده، حتى في الحربين العالميتين لم نشهد وحشية من هذا النوع..
لوهلة فكرت في قائد الطائرة الذي ضرب هؤلاء بالسلاح الكيميائي، تخيلته بين أطفاله، وتخيلته أيضا يسأل نفسه، وهو يشاهد الضحايا: ماذا لو أن أطفاله بينهم؟.
وتذكرت إنه لن يسأل، ولن تصل «إنسانيته» إلى هذا المستوى، فهو من صنف آخر، بلا أخلاق، بلا ضمير أو نخوة، هو صنف، شيء، كائن، لكنه أبدا ليس منا ولا مثلنا ولا يشبه شيئا من أصناف البشر، وهل هناك إنسان يرضى بقتل الأطفال؟.
حتى لو لم يكونوا أطفالا.. لو افترضنا إنهم قطيع من الخراف أو جول من الطيور.. من يقبل بقتلهم بهذه الطريقة؟!
الإسلام يدعو للرفق بالحيوان وحتى في ذبح الحلال منه أن يكون بطريقة لائقة..
والعرب معروفون بالنخوة والشهامة والفزعة
ولكن هذا الطيار وهذا النظام أخلفوا قواعد الدين وأفلسوا من أخلاق العرب..!! من أنتم؟! ومن أين أتيتم بكل هذا الغل والتوحش؟! ضد شعبكم.. ضد أهلكم.. ضد ناسكم وربعكم..!
هذا الطيار «تربية» النظام، لذلك لن يتردد في تكرار جريمته، وهو سيمعن بإجرامه أكثر طالما أتيحت لنظامه الفرصة من أجل القيام بالشيء الوحيد الذي يتقنه.. وهو: القتل.
لم أصدق ما كنت أرى، حاولت أن اشيح بنظري عن صور الأطفال المختنقين بغاز الأسد، تمنيت للحظة لو أن ما أراه كان كابوسا مزعجا سوف أستفيق منه، لكن لا، لم يكن كذلك أبدا، أبدا.
تأكد حينها أن الغاز حقيقة وأن النظام الوحشي
ورئيسه «الغازي» تجاوزوا العهد «النازي»!
من الدفاع إلى الهجوم
من بين كل ردود الفعل على جريمة النظام السوري الأحدث في خان شيخون، استوقفتني «التصريفة» الروسية التي وردت في بيان لوزارة الدفاع خلاصته أن الطيران السوري قصف «مستودعا إرهابيا» يحتوي على «مواد سامة»، كانت موجهة إلى مقاتلين في العراق.
تقوم سياسة موسكو في سوريا على التنصل من أي عمل إجرامي يرتكبه النظام، وهو ما فعلته عندما أعلنت مساء يوم المذبحة أن طائراتها «لم تشن أي غارة في منطقة بلدة خان شيخون».
الخطوة التالية: تقديم وقائع مختلفة، وهو ما سمعناه عبر بيان اليوم التالي للمذبحة بأن الطيران السوري قصف «مستودعا إرهابيا» يحتوي على «مواد سامة».
الخطوة الأخيرة: الانتقال من الدفاع إلى الهجوم العنيف، بهدف تحويل الأنظار عن المشكلة الحقيقية، وإجهاض أي محاولة لمعاقبة النظام السوري على جرائمه، عبر مجلس الأمن، وقد تمثل ذلك في إعلان متحدثة باسم الخارجية الروسية أن موسكو ترى المسودة الغربية لقرار من الأمم المتحدة بشأن الهجوم «غير مقبولة»، ثم تصريح وزير الخارجية الروسي بأن موقف موسكو من الأسد لم يتغير، وكان سبقهما المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف الذي أعلن ان «روسيا وقواتها المسلحة تواصل عملياتها لدعم جهود مكافحة الإرهاب التي يقوم بها الجيش السوري من اجل تحرير البلاد».
في معرض دفاعه عن رفض القرار، قال المندوب الروسي، إنه يستبق تشكيل لجنة تحقيق، تقدم تقريرها بموضوعية، وهنا لابد أن نسأل: لماذا تشكيل لجنة تحقيق؟، ولدينا «رواية محكمة»، من جانب روسيا، ولو أن لجنة التحقيق خلصت إلى مسؤولية النظام السوري، هل ستوافق موسكو على معاقبته؟.
رواية نظام دمشق
قبل كل ذلك دعونا نسمع رواية نظام دمشق، صاحب الشأن، فهو أدرى بما فعله هناك.
يقول بيان الجيش السوري، الذي صدر بعد ردود الفعل العالمية، إنه ينفي «نفيا قاطعا» استخدام أي أسلحة كيميائية أو سامة في مدينة خان شيخون، ويؤكد أنه لم ولن يستخدمها في أي مكان أو زمان لا سابقا ولا مستقبلا».
هو يكذب مرتين هنا:
الأولى: عندما قال إنه لم يستخدم أسلحة كيميائية في السابق، لأنه استخدمها بالفعل، ووافق نتيجة لذلك في العام 2013 على تفكيك ترسانته الكيميائية، بعد «تصريفة» روسية أيضا، قبلت بها إدارة أوباما، أعقبت تعرض منطقة الغوطة الشرقية، أبرز معاقل المعارضة قرب دمشق، لهجوم بغاز السارين في 21 اغسطس 2013 تسبب بمقتل المئات.
الثانية: عبر إشارته إلى أنه ليس في وارد استخدام السلاح الكيميائي مستقبلا، بمعنى أنه يعترف ضمنيا بامتلاك هذا السلاح.
لنبقى في رواية نظام دمشق لحيثيات جريمة خان شيخون، ففي بيان لـ «مصدر مسؤول» أوردته وكالة الأنباء السورية، جاء أن «المنظمات الإرهابية المسلحة ومشغليها هم الذين قاموا بافتعال هذه الأحداث وغيرها لاتهام الدولة السورية بها لاحقا».
إذا الطيران السوري لم يقصف المنطقة مستخدما السلاح الكيميائي، ولم يقصف مخزنا للسلاح الكيميائي، يتبع «المجموعات الإرهابية»، كما وصفها، وإنما المعارضة هي من فعل ذلك، أي أنها هي من قام باستخدام هذا السلاح لاتهام نظام الأسد.
من نصدق، الرواية الروسية، أم رواية صاحب الشأن؟ أو بالأحرى من نكذب أكثر؟!
دعونا من رواية «صاحب الشأن» وتناقضاته وأكاذيبه، فالرواية المعتمدة اليوم هي رواية موسكو، وهي تصلح للبناء عليها، بمعنى أن التحقيق الدولي سوف ينصب لاحقا على فكرة أخرى مختلفة تماما:
هل كان القصف السوري لمخزن المعارضة الكيميائي متعمدا، أم أن القصف استهدف موقعا كان بـ «الصدفة البحتة» مخزنا كيميائيا؟!.
الرواية الروسية يبدو أنها لم تكن محكمة تماما، هي الأخرى، ذلك أن هدفها الرئيسي كان حماية نظام دمشق عبر الترويج لفكرة أساسية هي قصف «مخزن كيميائي»، وليس استخدام سلاح كيميائي، ثم إشاعة حالة من الغموض فيما يتعلق باستهداف هذا المخزن عمدا، أم بالصدفة البحتة، لكن أهم تناقض في هذه الرواية يكمن في «التفصيلات» المتعلقة بالمخزن، حيث أشار بيان وزارة الدفاع الروسية إلى «مستودع إرهابي» يحتوي على «مواد سامة»، كانت موجهة إلى مقاتلين في العراق.
إذا هناك عملية رصد طويلة، انتهت بقصف هذا المخزن، لكن دعونا نتوقف هنا عند عبارة «مقاتلين» في العراق، لقد تم استخدامها ببراعة شديدة، والمقصود بها طبعا «تنظيم داعش»، ولو أن البيان الروسي استخدم عبارة «المواد السامة» كانت متجهة إلى تنظيم داعش في العراق لبدا الأمر «مباشرا» بصورة فجة، إذ أنه لا توجد أي علاقات بين المعارضة أوالمقاتلين أوالمسلحين، سمهم ما شئت، في إدلب السورية، و«داعش» العراق، لذلك اختار تسمية «مقاتلين» وترك الاستنتاج للغرب المثخن بجراح الأعمال الإرهابية التي ارتكبها هذا التنظيم، وهنا تراهن موسكو «على ابتلاع الطعم» من جانب الغربيين، تماما كما فعلت مع إدارة أوباما و«خطها الأحمر» و«أصبعي على الزناد» «وصبرنا بدأ ينفد» الخ من التهديدات الكلامية فقط.. عام «2013».
تشير جميع الأدلة إلى مسؤولية النظام السوري عن هذه الجريمة المروعة، بما في ذلك البيانات الصادرة عنه وبيان وزارة الدفاع الروسية، والسؤال الأكثر منطقية الآن هو: كيف تجرأ على استخدام السلاح الكيميائي مجددا؟
«3» مؤشرات
اعتمد نظام دمشق في تصعيده على عدة مؤشرات تجمعت لديه، وانتهى معها إلى أن في مقدوره تصعيد أعماله الإجرامية دون أن تطاله يد العدالة:
المؤشر الأول يتعلق بعدة تصريحات صدرت عن الإدارة الأميركية ومفادها أن واشنطن لا تعطي الأولوية لمصير الأسد، وإنما لمحاربة «داعش» واستئصاله.
المؤشر الثاني جاء من الأوروبيين الذين سلكوا هذا المنحى أيضا، خاصة مع تنامي التيارات الشعبوية.
المؤشر الثالث جاء من القمة العربية التي بدت عاجزة عن تبني موقف قوى، أو استعادة زمام المبادرة، وبدا الحديث عن المأساة السورية في بيانها، وكأنه يتعلق بمشكلة في كوكب آخر، ناهيك عن عجز الجامعة العربية كمؤسسة بسبب عجز أعضائها وتفككهم.
الموقف العربي
في الحديث عن الموقف العربي لابد من التوقف مليا أمام بيان الأمين العام لجامعة الدول العربية عن مذبحة خان شيخون، والذي تغافل تماما الإشارة لنظام دمشق ومسؤوليته، في حين أن العالم بأسره تحدث عن علاقة النظام وحمله مسؤولية هذه الجريمة المروعة، ورأى بصماته واضحة فيها، بينما الأمين العام يرتدي نظارة سوداء حجبت الرؤية عن هذا المشهد المأساوي!
موقف الأمين.. غير أمين وكان يتعين عليه أن يكون واضحا ومعبرا بل متقدما على المواقف العالمية القوية بالفعل، فالجريمة حدثت في سوريا «قلب العروبة النابض»، والضحية كان الشعب السوري، الذي قدم الكثير، وهو جاء متأخرا حتى عن «البيان الروسي» الذي أشار بوضوح إلى أن الطيران السوري هو من ارتكب هذه الفعلة، مع تبريرها على نحو ما رأينا، وهو جاء حتى متأخرا عن البيانات الإسرائيلية. اقرأوا ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو:
«عندما شاهدت صور الأطفال الذين اختنقوا من هجوم كيميائي في سوريا، شعرت بالصدمة والغضب».
لم تشعر جامعتنا العتيدة بالصدمة والرعب، واكتفت ببيان إنشائي سقيم، عقيم قاصر ومعيب..!
«4» دلالات
تحدثت عن المؤشرات التي تجمعت لدى النظام السوري، ودفعته إلى ارتكاب هذه الجريمة، وهو فعل ما فعله معتمدا أيضا على مجموعة من العوامل، منها:
*الدعم الروسي، فهو يدرك أن موسكو ليست في وارد التخلي عنه، وهي ستتحرك على الساحة الدولية للحيلولة دون معاقبته، عطفا على حق النقض الذي استخدمته في مجلس الأمن مرارا وتكرارا لمنع أي قرار، ضده، باستثناء قرار مجلس الأمن رقم «2118» الخاص بنزع السلاح الكيميائي، والذي جاء في بنده ما قبل الأخير:
21- يقرر، في حالة عدم الامتثال لهذا القرار، بما يشمل نقل الأسلحة الكيميائية دون إذن، أو استخدام أي أحد للأسلحة الكيميائية في الجمهورية العربية السورية، أن يفرض تدابير بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
الدعم الإيراني، وهو معروف حيث تشارك إيران بالفعل في هذه الحرب، عبر الميليشيات التابعة لها.
التخبط العربي، حيث ما زالت بعض الدول العربية تحابي نظام دمشق، سواء عبر الدعم المباشر، سياسيا وعسكريا، أو عبر مصطلح النأي بالنفس، وكأن ما يحدث من قتل للشعب السوري يجري في عوالم أخرى، ناهيك عن موقف الجامعة العربية وعدم بذل أي جهود حقيقية، على الأقل لجهة كشف الحقائق ووضع الأعضاء أمام مسؤولياتهم التاريخية.
انكماش مواقف المجموعة الدولية، حيث عبرت بياناتها عن العجز المطلق، وهذا ما تبدى باللجوء إلى مجلس الأمن، في إجراء لا معنى له أبدا.
تاريخ من الفساد
اسمحوا لي أن انتقل إلى قضية أخرى، قد لا تبدو، للوهلة الأولى، لصيقة بمذبحة النظام في خان شيخون، حيث داهمت السلطات الإسبانية أول من أمس أملاكا لرفعت الأسد، عم بشار الأسد، وعائلته في منتجع ماربيا وصادرتها، لصلتها بتحقيق في فرنسا أدى، قبل أيام، لمصادرة أملاكه هناك أيضا، بعد اتهامه باختلاس أموال عامة من سوريا، وتعود تلك الواقعة إلى ثمانينيات القرن الماضي عندما قام حافظ الأسد بطرده من سوريا بعد أن سلمه حوالي «300» مليون دولار سحبها من خزائن الدولة، واستخدمت لشراء أملاك في فرنسا.
حافظ الأسد كان يُعد ابنه باسل للاستئثار بالحكم من بعده، لذلك أجزل العطاء لشقيقه، وكانت «مكافأة نهاية الخدمة» الباهظة هذه ثمنا للابتعاد، مع ما جمعه أيضا من أموال على حساب الشعب السوري الذي كان يقوم بتهريب الخبز والحمضيات والموز، وحتى المحارم الورقية من لبنان لسد رمقه ورمق الأطفال الجوعى.
هذا هو نظام الأسد في سوريا، اختلاسات ثم مذابح بالجملة، آخرها الجريمة المروعة في خان شيخون، التي أعود إليها مجددا، حيث بدأت حديثي بالدعم الروسي، فهو الأساس في هذه المأساة المروعة، ويحضرني هنا تصريح السيد سيرغي لافروف وزير الخارجية، الذي أعلن في يناير الماضي أن «العاصمة السورية دمشق كانت ستسقط خلال أسبوعين أو ثلاثة عندما تدخلت روسيا هناك»، وهي ستتدخل مجددا لمنع مجلس الأمن من أي تحرك جاد قد يقود إلى فرض تدابير بموجب الفصل السابع، على ماورد في الفقرة «21» من القرار «2118».
يقول المتحدث باسم البيت الأبيض شون سبايسر إن الهجوم الكيميائي هو نتيجة الضعف وانعدام التصميم لدى إدارة باراك اوباما، مذكرا بـ «الخط الأحمر» الذي رسمه آنذاك، وسمعناه يصف هذا الهجوم بأنه «مشين لا يمكن القبول به».
لنأمل أن تكون إدارة ترامب أكثر صدقا وجدية وجرأة في التعامل مع هذه الكارثة الإنسانية المستمرة منذ ست سنوات، وتخلص سوريا والعالم من نظام حكم دموي لا يعرف غير لغة القتل والقصف والتعذيب والتهجير.. وإذا لم يسارعوا لإنهاء الأزمة فلا معنى لكل حديث عن حقوق الإنسان ولا جدوى لكل المعاهدات الدولية ولا قيمة لقرارات الأمم المتحدة.. إلا إذا كانوا يعتبرون سوريا من خارج الكوكب وشعبها ليسوا
من البشر..!!

- محمد حمد المري
رئيس التحرير المسؤول
copy short url   نسخ
06/04/2017
8819