+ A
A -

جلست بالمقهى بمكان جعلني لصيقة بشاعر مغمور، كان يجاهر بضيقه كون إحدى المطربات التي نشرت مقطعا من أغنيتها التافهة، حازت نصف مليون لايك، فيما لم تحصل قصيدته سوى على 17 إعجابا.

تحدث عن تجاهل أعماله وحديث عن الظلم، ثم واسى نفسه فروى قصة طالب علم جاع يومًا، فذهب لسوق الخضار وأعطى الخضري نصف درهم، هو كل ما يملك، واستعطفه لشراء ثمرة خضار.

رفض البائع متعللاً بأن القدرة الشرائية للنصف درهم أضعف من شراء أي منتج.

قال الشاب: أنا طالب علم ولدي من الفكر الكثير والثمين، فلتمنحني طعامًا على أن أرده لك علمًا؟

رد الخضرجي: لو كان علمك يساوي شيئا لأكمل لك نصف درهمك!

اقتنع الشاب بحديث الخضرجي، فقرر ترك العلم وبحث عن عمل يدوي يقتات به. استفقد العالم تلميذه فذهب يعوده، فـأخبره الطالب بقرار ترك العلم، فأهداه المعلم خاتمًا ذهبيًا.

ذهب الفقير بالخاتم لبيعه بسوق الذهب، فاتهمه الصائغ بالسرقة لاستحاله أن يقتني شاب فقير لحليّ بهذه القيمة.

اصطحب الطالب الصائغ لأستاذه لإثبات براءته، فاشترى الصائغ الخاتم من الطالب بمائة ألف دينار وبعدها، عاد لدروس العلم، فسأله أستاذه:

أي الأسواق ابتغيت حين فكرت في بيع الخاتم؟

قال: سوق الذهب.

فقال شيخه: ولئن ذهبت تبيعه بسوق الخضار، لخسف بثمن الخاتم لجهل بائع الخضار بقيمة المعادن، فلا تبع علمك بالأسواق البخسة ولا تجعل خضريا يُقَيم الفكر.

ذكرتني هذه القصة بالكتاب والمفكرين الذين يعانون ماديًا، فمطلوب منهم منتج فكري بالمجان، فينتهي بهم الأمر مُعوَزين، حتى أن البعض صار أبأس من «العضروط» أي الخادم الذي يكدح مقابل الحصول على الطعام فقط.

ولم يرد في المعاجم اسم لمن يعمل بأجرٍ لا يكفيه أو من يعمل بلا أجر، ما يعني أن الأكثرية المبدعة باتت أدنى منزلة من العضاريط!

كثر من الكتاب يحتاجون لنشر أعمالهم، بينما الناشر يريد كاتبا أقل من عضروط.

فمهر الكاتب هو بمثابة وعد غير ملزم بالتقدير. فالأدباء والمبدعون لم يحلموا بألق «اللاعبين»، لكنهم ودوا تقدير جمهور الملاعب!

فالمثقف يلتحف غطاء المعرفة ليتمهد أسرّة التكريم، لكن ينتهي به الحال خالد الذكر بتخت العراء!

يكتب الأديب معلقًا آمالاً أن «اسفاره» ستبقى بعده، ليفاجأ أنه هو نفسه قد سكن قبل الموت. بل مات عضروطًا يتنفس معرفة لا تروي شره شرايين الحياة المادية!

ولا شك أن المبدع غني لامتلاكه ما لا يشترى بالمال، إلا أن المفارقة أنهم يعتازون النقد ولا يجدونه. وقديمًا، كانوا يصفون من امتهن الكتابة بمن:«أخذته آفة الأدب» ويكأنه عليل!

فالكاتب يكون أحوج ما يكون لكنّه يُعدم، فيما اللاعب يكون أغني ما يكون، ثم أنه يُكَرّم.

هذا يقدح زناد فكره فيُنكر، وذاك يرمي رمية بباطن قدميه فيُعَظَم!

يبدو أن حمولةُ العقل من الأفكارِ تجعلُ تجارة الورق كاسدة، ومن ثم فقد يئس المثقف من انتظار جائزة لإبداعه، بل بات يائساً من أن يُغَرد له كروان النجاح في صبيحة مغيثة،على أمل أن ترحل عنه كوابيس الفواتير والأقساط وسائر الالتزامات.

-وهربًا من قسوة لقب «العضروط»، يلجأ الكاتب للعمل بمهن شتى بحثًا عن حياة لائقة أو للإنفاق على عمله الإبداعي الذي لا يتعجله سكرتير تحرير.

-فهل يصدق القارئ أن «بدر شاكرالسياب» الذي قلب موازين الشعر العربي عمل كعتال، كذواقة وكموظف جمارك؟

أما أمل دنقل، فلطالما عانى لتوفير قوت يومه؟ثم كيف يصل الأمر بالمازني لكتابة تلك المقدمة لكتابه «حصاد الهشيم» ؟

:«هذه مجموعة مقالات، تباع بعشرة قروش لا أكثر، وأقسم لك أنك تشتري عصارة عقلي وإن كان فجًا، ومجهود أعصابي بأبخس الأثمان! إن في الكتاب أكثر من أربعين مقالًا تختلف طولًا وقَصرًا وعمقًا وضحولة، وأنت تشتري كلَّ أربعٍ منها بقرش!».

-الفنان «فان جوخ» عاش الضنك، فكان يضطر لإلقاء بعض أعماله في النار للتدفئة.

أما الجاحظ فقد عمل في مخبز نهارًا، وحارسًا لمكتبة بالليل، وظل يقرأ الكتب على ضوء شمعة، حتى جحظت عيناه.

رحم الله كل مبدع يكافح لينأى بنفسه عن لقب «عضروط» فيما يعيش مآسي بشرية تقتر حبرًا.

داليا الحديدي

كاتبة مصرية

copy short url   نسخ
04/03/2023
100