التفكير والتأمل العميق في قضايا الدين والمعرفة والمجتمع، وخبرات العاملين في هذا المضمار، تمثل مصابيح على طريق الحياة، يستهدي بها الناس، ويستأنسون بعطاياها في اللحظات الحرجة، فتضيئ لهم السبيل وتهديهم إلى الصواب، وتعصمهم من الأخطاء.
وكتابة المذكرات، في مختلف الثقافات والحضارات، من ألوان الفن الراقي، الذي يحفظ للأمم تاريخها، والتاريخ ذاكرة الشعوب، ويدوِّن سير رجالاتها، ومحطات التحول في سيرورة الحياة، إنما يصنعها العظماء من المفكرين والقادة الرواد.
والمذكرات، بغض النظر عن طبيعتها وهويتها وما يمكن أن توصف به من كونها تاريخية أو وثائقيَّة أو شخصيَّة أو غير ذلك، فهي تجد قبولاً كبيراً عند شرائح عريضة من المثقفين والساسة وعامة القراء، إذا التزم الكاتب شروطها، من القدرة على حسن التعبير والتصوير ودقة الوصف، واعتماد الصدق والأمانة منهجاً في سرد الأحداث وإيراد الحقائق.
و«مَشَاهد من الـذاكرة» للأستاذ عمر عبيد حسنه، مدير مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، سابقاً، وإن جاز للبعض تصنيفها في خانة «المذكرات»، إلا أنها، في الحقيقة، محطات في رحلة الحياة، وتسجيل لما غلب على الظن أن فيه «الدرس والعبرة»، دون سواه، تجمع بين التاريخ والتوثيق والتدوين لأحداث ووقائع وإبداعات وأفكار، كانت (الذات) حاضرة فاعلة في بعضها، منتجة مبدعة لمعظمها، مراقبة ناصحة في كثير منها.. وهي جهد يوجهه الطابع الفكري الثقافي لصاحبه، ليأتي من ثمّ امتداداً لأسفار الرحلة الفكرية العشرة، التي طبعها «المكتب الإسلامي»، في بيروت، تحت عنوان: «الأعمال الفكرية الكاملة»، حيث الرؤية الفكرية لكثير من القضايا.
فالمَشَاهد، في حقيقتها «أشبه ما تكون بنوافذ ثقافية على مسيرة فكرية تربوية ثقافية، وليست مذكرات سياسية، على كل حال، أو سيرة شخصية الغاية منها تمجيد الذات وتعظيمها والسقوط في النرجسية، وإنما القصد تحقيق العبرة وإغناء التجربة وتسديد مسيرة العمل وتجنيبه العثرات، ما أمكن، وصون الأجيال من السقوط وتكرار المآسي»، وتأمين الوقاية، وتسهيل العبور إلى المستقبل بشكل أفضل، خاصة أن «العثرات تتكاثر، والغيوم تتراكم، والنفق يطول، والتضليل الثقافي والإعلامي والضلال يملأ الساحة، فلعلها تشكل شمعة في الليل الطويل والظلام الدامس».
لذلك، تأتي هذه «المشَاهِد» لتشكل قراءة نوعية لأخطاء العمل وهفوات الرجال، ومحاولة مقدورة لتحويل «الجوانب السلبية إلى موقع إيجابي يحقق العبرة لمن يجيء بعدهم، فيتجنب أسباب السقوط، وبذلك نستفيد من صواب من سبق فنستصحبه، وبنفس القدر نفيد من خطئه، ويكون لنا معالم حماية على الطريق فنتجنبه».. فـ«الفائدة من معرفة الفشل لتجنبه كالفائدة من معرفة النجاح لتمثله، فالعاملون الفاشلون أرشدونا في المحصلة إلى طريق الصواب والنجاح».
ومن ثمّ، فإن من الملامح الأساس، التي تتميز بها «المشَاهِد»، تأكيدها على أهمية العقل الناقد، والإعلاء من دوره في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بشكل عام، والثقافية بشكل خاص، واستدعائه لتسديد المسيرة وإعادة تشكيل الذهنية الثقافية القادرة، ضمن أدب المعرفة، على عمليات المراجعـة والمناصحـة والمفـاكرة والمشـاورة والنقد والتقويم، التي هي «روح العمـلية الفـكرية، وغذاؤها».
صور من معاناة الذات
ويلمح الناظر في هذه «المشَاهِد» حجم المعاناة، التي يجدها الكاتب إزاء محطات مؤلمة في حياته، فهو يقول: «لعل مأساتي ومعاناتي المضاعفة أني كنت أبصر عواقب الأمور من مقدماتها، وأحذر من المخاطر، وما يترتب على سوء التقدير، وأدعو إلى الاعتبار وعدم الغفلة بمقدار وسعي».
وتتجلى المعاناة والمأساة، في جانب منها، في بعض الصور من المعايشات والمشاهدات، من ذلك:
-«عايشتُ الكثير من أمراض القلوب، وعانيت من المكر.. وعايشت وعانيت عدم الوفاء من بعض الناس، رغم الإحسان إليهم».
-«وشاهدتُ وشهدتُ وعانيت من المكر والخداع والمرارة والكيد والحسد واللؤم والطعن في الخلف».
-«أبصرتُ، في رحلة الحياة الطويلة، رجالاً معادنهم كالذهب، لا ينالها الصدأ، في كل الظروف والأحوال، يأنفون الصفات الخسيسة، مهما كلفهم الأمر.. فأدركت أنهم بذور من الطائفة القائمة على الحق... وأدركت أيضاً أنهم دليل خلود الوحي وتعاليم النبوة وقدرتها على الإنتاج في كل زمان ومكان، وأدركت أيضاً أنهم هم الخمائر الاجتماعية، التي تحفظ الصلاح وتنقله إلى الأجيال، حيث الخير لا ينقطع في هذه الأمة».
-«وأبصرت رجالاً يملؤون الفضاء ضجيجاً وأضواءً وسمعة تسير بها الركبان، فلما قابلتهم أصابني من الإحباط ما الله أعلم به».
-«رأيت الكثير من الألقاب العلمية الكبيرة، التي توبخ حملتها والتي هي أشبه ما تكون، في الحقيقة والواقع، بشهادة الوفاة والتوقف عن النمو العلمي والمعرفي».
-«قابلت العديد من قادة وزعماء العمل الإسلامي، الذين لا نصيب لهم من صفات الزعامة والقيادة، فلم أتردد كثيراً في اكتشاف أسباب التخلف والسقوط والمعاناة والعجز عن النهوض، على الرغم من الإمكان الحضاري، الذي تتوفر عليه الأمة».
-«عايشت بعض الزعامات القائمة على أمر العمل الإسلامي، فلم أر أي صفة من مؤهلات الزعامة وشرائطها سوى الهالات الكاذبة والعصبية الحزبية».
-«رأيت أن الكثير ممن يحملون الشعارات الإسلامية ويمارسون الاصطفاف في الجماعات والتنظيمات الإسلامية، لا يختليفون عن غيرهم إلا بالعناوين، أما المضامين فهم كالآخرين».
-«شاهدت وشهدت وعانيت من التعصب الحزبي، والسقوط في باطن الإثم، حتى ضمن إطار العمل الإسلامي نفسه، بكل ما فيه من التحيز والتطفيف والتباس الإيمان المدّعى بالظلم الواقع، وبخس الناس أشياءهم».
-«استمعت وشاهدت وقرأت أنماطاً من الأفكار الميتة، التي لا تتجاوز شفاه أهلها.. وعايشت كثيراً من «الوعظ المغشوش»، الذي يملأ الشباب حماساً واستعداداً للتضحية، دون أن يُبصر الواقع الاجتماعي والسياسي فيضع الأوعية الشرعية لحركتهم، فيقعون في سوء التقدير، ويتحولون إلى ألغام اجتماعية، لا تلبث أن تنفجر بنفسها وبأقرب الناس لها، وتجعلهم محلاً للاستغلال والابتزاز والاستخدام في معارك لحساب غيرهم».
-«شاهدت وسمعت الكثير من الوعاظ والخطباء والمشايخ، تملأ رؤوسهم المغالطات، ويعيشون خارج عصرهم، ويتمحور وعظهم حول قدرة الله والتأكيد على السنن الخارقة، التي شأنها إلى الله، إن شاء أعملها، وإن شاء لم يعملها، وأن شأن العبد وتكليفه إنما يتمحور حول السنن الجارية، واكتشاف القوانين، التي تحكم الحياة والأحياء وتسخيرها»، بينما «اكتشاف السنن الجارية وإتقانها قد يكون هو الشرط المطلوب لإعمال السنن الخارقة».
-«رأيت أشخاصاً لا أشك في إيمانهم وحماسهم وإخلاصهم، لكني أرتاب في إدراكهم».
-«رأيت بعضاً ممن ينتسبون إلى الإسلام يستبيحون الكثير من الأمور، حتى الكذب، في سبيل تبرير وتسويغ وجهتهم».
-«رأيت زعامات تُبنى على التضليل، وتركب موجة الغوغائية، فبدل أن يقودوا المجتمع، ويرشدوا الصغار والدهماء، ويُبصِّروا الأمة بوسائل عملها، ويحولون دون المجازفات والمخاطر والتربص بها، ويسيروا أمام المجتمع، يركبون الموجة، التي يرونها عالية والتي يعتقدون أنها تساهم بصنع زعامتهم، ويسيرون خلف العامة والصغار».
-«رأيت، فيما رأيت، زعماء فاشلين، أدمنوا على صناعة هزائم الأمة، زعماء ينبتون على أرض الهزيمة، وزعامتهم لا تنمو إلا في البيئات الملوثة، ويتاجرون بدماء الناس، دون أي خشية أو خوف من الله.. وحزنت من قدرة العدو على قراءة قدرتنا على التضحية وسوء تقديرنا للأمور وغفلتنا عما يُراد لنا، ومن ثمّ استدراجنا كلما كاد الجيل أن يبلغ أشده، وكيف يصنع لنا المعارك، ويغرينا بها، ويدخلنا فيها؛ لنكون وقوداً لها، ولا شأن لنا بنتائجها، بل ليحقق مآربه، ويهزم خصمه، ويتخلص منا».
وفي ضوء ذلك، فإن الأستاذ عمر يؤكد أن «الخطورة، كل الخطورة، في الفهم المعوج لقيم الدين وفقه الحضارة، وأن الشباب، الذي قضى نحبه في ما يسود من عبث ومجازفات، «لو أنه اتجه صوب العلم والتخصص، لكان محل النهضة والتغيير».
عشرة محاور
ويمكن تصنيف المشاهد في عشرة محاور رئيسة:
«ظروف النشأة.. ومؤشرات الهوية»؛ «الانخراط الكلي في سوق العمل»؛ «في مكتب دمشق.. للإخوان المسلمين»؛ «الهجرة من سوريا»؛ «نضوج الرؤية.. في «مدرسة الأمة»؛ «أيام في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية»؛ «مساهمات في الشأن التعليمي والثقافي في قطر»؛ «في الشأن الثقافي العام»، خارج قطر، في أكثر من بلد وعلى أكثر من مستوى؛ «كتب وكتّاب ومفكرون أفدت منهم»؛ ومحور «فضل الله عليّ في رحلة الحياة الغنية».
وتعتبر مرحلة «مدرسة الأمة» من المحطات، التي توقف عندها الكاتب بكثير من التفصيل.. فإصدار «مجلة الأمة» من الأعمال، التي يعتز بها كثيراً والتي أحدثت المنعطف الكبير في حياته وفي التشكيل الثقافي لذهنية العاملين للإسلام.. و«كانت قطر هي البيئة المناسبة والحاضنة لهذا العمل الكبير؛ لما تتمتع به من الأمن الاقتصادي والاستقرار السياسي».
وعلى الرغم من توقف «مجلة الأمة»، فقد استمرت في طروحاتها ومنهجها، على كل المستويات، على مستوى «مجلة الأمة» وانطلاقها.. بعد تعثر إصدارها، وسلسلة «كتاب الأمة»، وإنشاء «مركز البحوث والدراسات»، حيث شكلت السلسلة امتداداً للمنهج؛ وجائزة «الشيخ علي بن عبدالله آل ثاني الوقفية العالمية المحكّمة»، وسلسلة «المشروعات الثقافية الجماعية»، واكتشفت «مدرسة الأمة» الكثير «من الخامات المخبوءة، وتمدرس من خلال منهجها وطروحاتها، عن بعد، الكثير من الباحثين والكُتّاب، الذين تُعتبر كتاباتهم وإنتاجهم امتداداً لهذه المدرسة»، التي سوف يحدث عطاؤها «تغييراً جذرياً، ونقلة ذهنية كبيرة، ومنعطفاً كبيراً في الواقع الفكري الإسلامي، وسوف لا يزيدها الزمن إلا نضوجاً وامتداداً وتوليداً وتألقاً ونصاعةً، حتى تصبح لبنةً أساساً في التجديد وإعادة البناء».
وبشكل عام، فإن «مَشَاهد من الـذاكرة» للأستاذ عمر عبيد حسنه، بمقاصدها ومضامينها ومحاولاتها وضع أسس وقواعد للتغيير، أشبه ما تكون بـ«ثورة ثقافية»، إذا جاز التعبير، في ساحات الفعل الحضاري.