+ A
A -
جريدة الوطن

لقرابة ثلاثمائة عام، كانت سواحل بريطانيا وفرنسا وأجزاء واسعة من أوروبا تتعرض لهجمات متتالية من الفايكنغ، وهم شعوب جرمانية وثنية تتكون غالباً من ملاحيّ السفن، وتجار، ومحاربي المناطق الإسكندنافية، والتي تشمل كلاً من السويد والدنمارك والنرويج وآيسلندا حالياً.

ولقد عرف العالم قوة الفايكنغ وسطوتهم وجبروتهم وتدميرهم للمدن وقتلهم وأسرهم واستعبادهم للبشر، حتى أن البعض قد أطلق عليهم مغول الغرب، إشارة إلى الفظائع التي ألمت بالشرق أثناء هجوم المغول.

وأثناء إحدى تلك الغارات على السواحل الإيطالية، حاصر الفايكنغ مدينة تدعى لونا معتقدين أنها روما العاصمة، إلا أن المدينة كانت شديدة التحصين، ولم يتمكن المحاصرون من دخولها.

وكان على رأس الغزاة قائد يدعي «هاستين»، طلب الإذن بالدخول إلى المدينة، والتعرف إلى الديانة المسيحية، فأذن له القساوسة بذلك، وأمضى في المدينة فترة من الزمن، وأعلن أنه قد اقتنع بها ديانة، وطلب تعميده على الطريقة المسيحية، ثم طلب الإذن بالانصراف من المدينة، وأعلن أنه سيعود إلى بلاده حين يتغير اتجاه الرياح.

لم يمض وقت طويل حتى أعلن الغزاة وفاة قائدهم المسيحي هاستين، وأنه طلب أن يُدفن في ساحة كنيسة مدينتهم، وطلبوا الإذن بدخول المدينة لدفن قائدهم الكبير حسب وصيته.

وافق قادة المدينة على دخول المقاتلين اليها لدفن قائدهم، وما أن أصبح التابوت في وسط ساحة الكنيسة حتى هب القائد من مرقده، وكشف مشيعوه عن أسلحتهم، وقاتلوا أهل المدينة حتى سيطروا عليها، فنهبوا خيراتها، وأعملوا السيف في رقاب أهلها.

ربما لم يكن هاستين أول من ارتدى حلة الإيمان ليُخفي تحتها ثياب الغدر والخيانة، ولكن من المؤكد أنه لم يكن الأخير، فخلال عملية ثعلب الصحراء التي انهمرت فيها القنابل على عاصمة الخلافة العباسية، قتل آلاف العراقيين، وتدمرت منازلهم وحرق أراضيهم وخيرات بلادهم، لم يتوانَ الرئيس الأميركي حينذاك من توجيه تهنئة إلى الأمة الإسلامية بمناسبة حلول شهر رمضان الفضيل.

كنتُ قد شاهدت حواراً مع شخص ملتح يسأله صديقه عن سبب إعفائه لذقنه مع أنه غير ملتزم، فأجاب: أنا أعتبر هذه اللحية جواز سفر، يقوم الناس من أجل إجلاسي في المواصلات والأماكن العامة، وأتحصل على الأولوية في تحصيل الخدمات والبضائع، كما أنها تساهم في حصولي على خصومات عند مفاوضتي مع البائع.

لا يختلف موقف هاستين أو بيل كلينتون عن موقف هذا الشخص الملتحي كثيراً، ولا يختلف أيضاً عن امرأة غطت وجهها وكشفت ساعدها أو انتشر عطرها، جميعهم يرتدون ثوب الدين لسبب خاص بهم فقط.

وحتى أولئك القساوسة في مدينة لونا، هل تعتقد أنهم فرحوا كثيراً بسبب دخول هاستين في المسيحية طمعاً بإيمانه فقط؟ أم أنهم كانوا يرجون ذهابه إلى الجنة؟ الحقيقة أنهم أرادوه إلى جانبهم من أجل محاربة أعدائهم حتى لو كانوا على نفس ديانتهم ومذهبهم.

ليس كل من يظهر الالتزام بملتزم، فالديانة لم تشترط على الإنسان الالتزام بلباس معين، أو الظهور بمظهر معين، بل أكدت جميع الرسائل السماوية بأن الإيمان محله القلب فقط، وبالتالي فإن الذين يستترون بستار الدين ولا يلتزمون بتعاليمه هو منهم براء.

في الحقيقة، أنا لا أنظر إلى عبادات الأشخاص مطلقاً، ولا أتابع من يصوم رمضان أو يتردد إلى المساجد أو من يذهب إلى الحج كل عام، بل أحدد طبيعة علاقتي بالناس من خلال تعاملهم معي ومع الناس من حولهم، فإذا كان ذلك التعامل مبنيا على الاحترام واللطف والكلمة الطيبة والأخلاق الحسنة؛ فأنعم به، وإن كان غير ذلك فلا حاجة لي به.

صحيح أن قول: «الدين المعاملة» ليس بحديث، ولكنه موروث شعبيّ صحيح، وقد تجد ما يقاربه من السنة النبوية الشريفة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق»، وقوله: «ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ فأعادها ثلاثاً أو مرتين. قالوا: نعم يا رسول الله. قال: أحسنكم خلقاً»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «إن من خيركم أحسنكم خلقاً».

copy short url   نسخ
28/01/2023
5