+ A
A -
جريدة الوطن

على وَقع الانهيار المالي تناسلت الازمات لتشمل معظم السلطات الدستورية، وفي الوقت الذي غابت السلطة الاجرائية بخلو سدة الرئاسة، احتفظت السلطة التشريعية بـ«ورقة التين» الشرعية، وما زالت السلطة التنفيذية ممثلة بحكومة تصريف الأعمال في دائرة الشكوك والاجتهادات إلى أن تشظّت السلطة القضائية وبلغت ما يمكن تسميته «الجنون القضائي» فارتقَت إلى مستوى وضعها في أرفع سلم الكوارث، بعدما انفجر القضاء بدلاً من انفجار البلد. وعليه، ما الذي تعنيه هذه المعادلة؟

إن وجِد من يستغرب ما تعيشه البلاد منذ خلو سدة الرئاسة من شاغلها مطلع تشرين الثاني الماضي من مظاهر الأزمات الكيانية التي تقود إلى الانحلال الكامل للدولة ومؤسساتها التي تجمّدت أدوارها أو فقدت خدماتها كان يعيش في بلد آخر. وأكثر من ذلك فهو بلا شك فاقد للبصر والبصيرة لألف سبب وسبب. وإن كان الدخول في كثير من التفاصيل التي بات الغوص فيها مُملّا لا يتسع له مقال. فإن ما هو واضح ان لكل حالة إنكار لما كان متوقعاً من انفجار متعدد الوجوه والمظاهر له ما يبرره ولو متأخراً، ومردّه إلى المضي في سياسة المناكفات إلى الحدود التي لم يكن يتوقعه عقل بشري.

وما زاد الطين بلة، إن فقدان وسائل اللجم والردع والمحاسبة لما كان يجري زاد من خطورة الوضع إلى الحدود غير المتوقعة، وعزّز الشكوك في قدرات اهل المنظومة وسقطت كل الرهانات على حنكتهم وقدرتهم على إدارة شؤون البلاد والعباد، ولا يمكن إعفاء احد منهم من المسؤولية وإن تعدّدت الاسباب والظروف التي قادت كل منهم إلى ما قاموا به من إجراءات منعت قيامة الدولة واكتمال عقد المؤسسات الدستورية إلى درجة السقوط المدوّي لها، وسط التهديد بالوصول إلى مرحلة الارتطام الكبير الذي لم تصل إليه البلاد بعد، وهو ما يفسّر أن ما هو آت قد يكون أعظم.

لم يتوقف أي من المسؤولين أمام تداعيات ما يجري، فأنكروا الواقع الصعب وواصلوا الإمعان في تهديم مقومات الدولة ومؤسساتها، ولم يتبرّع أي منهم بتحمّل مسؤولية أي خطأ أو جريمة ارتكبت، لا بل فقد قاموا بالمستحيل لإسقاط كل المبادرات الدولية والإقليمية التي انطلقت تجاوباً وتفهّماً من العالمين العربي والغربي لما يعيشه لبنان، وحاولوا استغلال كل أشكال الدعم المادي والمعنوي المباشر لتعزيز مواقعهم. وبدل التجاوب مع ما كان ممكناً منها، ولا سيما منه المبادرة الفرنسية التي حظيت بدعم دولي غير مسبوق، وبقليل من التضحية والمسؤولية، فقد أمعَنوا في سياسة تبادل الاتهامات إلى ان غرقت المسؤولية وضاعت كل وسائل المحاسبة وشلّت كل المحاولات التي كان يمكن ان تؤدي إلى مرحلة التعافي والإنقاذ على أطلال شعب ومؤسسات ودولة مدمّرة عاجزة عن القيام بأقل واجباتها.

إن ما هو أخطر من هذه الصورة السوداوية التي يمكن ان تتكرس في أي لحظة «مأساة جماعية»، ما شهدته أروقة قصر العدل، والذي يهدد ما تبقّى من مقوماتها. فقد كان الرهان كبيرا على هذه السلطة لتكون ناظمة للحياة العامة والضامن لحقوق الناس في البلد، قبل ان تشهد نوعاً من «الجنون القضائي» الذي شهدته أخيراً بإعلان حالة الاستنفار القصوى بين مكاتب القضاة داخل العدلية بعد أيام قليلة على مواجهة قضائية حاول القضاء فيها محاسبة احد أشقاء شهداء المرفأ بتهمة التهديد بتفجير العدلية بعد ان رمى ورفاقه بضع حَصى على زجاج قصر العدل، فانتفض القضاء لحماية هيبته وفرض احترام كان مرتقباً قبل ان يهدمه القضاة بأنفسهم وحققوا رغبات مَن أراد شَل هذه السلطة وإبعاد سيفها عن رقابهم نتيجة ما ارتكب من موبقات وفضائح قادت إلى ما نحن فيه من انحلال حكومي ومالي واداري وحتى اخلاقي ووطني.

ليس في كل ما سبق من مؤشرات ووقائع، ما يدعو إلى الشك في انّ البلاد باتت على فوهة بركان يحول دونه عدم قدرة المواطنين على الانتقال من منازلهم إلى الساحات والشوارع لإقفالها وإعلان قيام الثورة الحقيقية الجامعة لمأساة جميع اللبنانيين التي توحّدهم بمختلف أطيافهم للخروج من جهنم التي يعيشها ملايين اللبنانيين والمقيمين على ارض وطنهم من نازحين ولاجئين ومن مختلف أصقاع الأرض. إلا انّ أخطر ما يواجهه لبنان سقوط السلطة القضائية في فخ الانهيار، ذلك انّ ما تشهده منذ عودة المحقق العدلي إلى ممارسة مهامه تجاوَزَ كل التوقعات.

وختاماً، لا بد من الإشارة إلى الإعتراف الخطير الذي عبّر عنه وزراء عدل وقضاة سابقين وحاليين، بأنّ ما يجري في العدلية تعدّى «الجنون القضائي» في ظل فقدان المخارج الممكنة. والاخطر انّ في عقل وقلب كل منهم موقفاً مؤيداً لكل من طرفي الخلاف، وهو ما يوحي بأنّ الحقيقة التي يبحث عنها اللبنانيون ومنهم اهالي الضحايا والموقوفون والمتضررون والعالم أجمع يحول دون بلوغها الحفاظ على السلم الأهلي. وعليه، هل لعب معارضو البيطار هذا الدور قبل ان يلعبه آخرون؟ وهل انفجرت قضائياً قبل ان ينفجر البلد؟جورج شاهين

كاتب لبنانيالجمهورية اللبنانية

copy short url   نسخ
27/01/2023
5