+ A
A -

وأنا أشد الرحال للعودة من الغربة فتحت إذاعة أم درمان التي يصل أثيرها للخليج، وإذ بصوت الموسيقار والمطرب السوداني الأحب على قلبي محمد ورده يصدح بكلمات الشاعر اسحق الحلنقي شاعر «غربة وشوق» ومطلعها:

رجعت بعد سنين بلدك

تغني وفرحتك شايلاك

رجعت لقيت عيون أهلك

تعاين ليك وما عارفاك

وإذا بالصديقين الدكتور محمد شرفي الوزير الدبلوماسي ابن السودان الذي لم يحتمل الغربة فعاد إلى السودان والصديق علاء العاني الاستشاري المترجم بالخارجبه يبعثان لي بمقال عن القصيدة للزميل البدوي يوسف بعنوان «أماسي الغربة».

قصيدة الحلنقي زادها شهرة صوت المطرب وردة، وهي تصور حال المغترب عند عودته للبلاد بعد طول غياب.. تغتال فرحته بالعودة سهام نظرات أهله الحائرة.. يرونه فلا يعرفونه.. يدققون في ملامحه فلا يتذكرونه.. يعيش بقية عمره -إن طاب له المقام وأمد الله في الأجل - غريباً في دياره وبين أهله وعشيرته، بعد أن وهن العظم وشاب في الاغتراب.. ويواصل ورده والشاعر والكاتب يجسدون مأساة المغترب فيقول الشاعر:

عفت بلادك وأنت شباب

وجيت الليلة..

وينو صباك؟

وكل الناس بقت تسأل:

تقول يا ربي وين شايفاك؟

تشبه فيك بالساعات.. تحاول تطرى ما تطراك!!!

ويعلق الكاتب البدوي على ما يهدف اليه الشاعر فيقول:

يأبى شاعر «غربة وشوق»، إلا أن يذكّر العائد بضريبة الغربة التي دفع شبابه ثمنا لها، وما ينتظره من فواتير واجبة السداد بأثر رجعي، وما يمنى به من خيبة عندما لا يجد الترحيب اللائق به والأحضان الدافئة التي طالما حلم بها، ويقف على حقيقة أن «زمانو فات وغنايو مات» وأن الدنيا لم تعد دنياه بعد أن رحل أعز الناس..

فيقول الشاعر ويصدح ورده:

رجعت وحولك الأحلام

لدنيا جميلة سايقة خطاك

وقايل الناس ترحب بيك

و بالأحضان بتتلقاك

لقيت الدنيا ما دنياك

ورحلت ناس عزيزة وراك

لا ذقت الهنا في بلدك

ولا في الغربة تم مناك

يستدعي العائد حكمة الشاعر ذاته في خاتمة رائعته «هجرة عصافير الخريف» التي يصدح بها الموسيقار محمد وردي:

الناس سعيدهم في الحياة

لا ذاق فراق لا جربو

قبل أن يذكرنا بكلفة الغربة العالية:

وأنا حالي في بعد الوطن

دفعني ضي العين تمن

يقرأ الحلنقي ما تقوله عيون الأهل، لكنه يتحاشى قراءة ما تقوله عيون العائد الذي بات لا يعرف إلا القليل عن أهله، وإن تظاهر بغير ذلك.. يحدق طويلاً في وجوه الصغار فلا يعرفهم إلا بالشبه.. لا يسأل عن أسمائهم حتى لا ينكشف أمره.. يبحث عن أصدقائه فلا يجدهم وقد تفرقت بهم الدروب.. فلا يملك غير أن يتساءل مع القائل:

وإن أعادوا لك المقاهي القديمة..

فمن يعيد لك الرفاق؟

يأسى على الماضي ويشكو التجاهل، كما الشاعر السعودي غازي القصيبي يوم أن عاد شيخاً إلى القاهرة - التي درس في جامعتها - ينوء إذا وقف بحمل ثوبه ويعثر حين يمشي بالظلال:

ولا المقهى يهش إذا رآني

ولا من فيه يسأل كيف حالي

وأين الصحب هل آبوا جميعاً

كما آب الشباب إلى المآل ؟

لا يسأل العائد عن من يفتقدهم من الكبار خشية أن يكونوا قد رحلوا إلى الدار الآخرة في غيابه الطويل ولم يواس فيهم هاتفياً أو يعزي ذويهم في إجازاته القصيرة، ومخافة أن يفتح بابا للملامة قد لا ينسد..

يكبر «العيال» في بلاد الاغتراب، فيكبر السؤال.. سؤال العودة.. الذي تزداد الإجابة عليه صعوبة بمرور السنوات حيث تتسع دائرة اتخاذ القرار ببلوغ الأبناء السن التي تؤهلهم للمشاركة في تقرير مصيرهم.

يجر السؤال.. السؤال.. من يضحي من أجل الآخر.. الأب أم الأبناء ؟ بعبارة أخرى هل يبقى الأب مغترباً من أجل مستقبل الأبناء؟ أم يضحي الأبناء بمستقبلهم - الذي يرونه في مهجرهم - ويعودون مع الأب حتى يقضي بقية أيامه في مسقط رأسه بين أهله وذويه؟

تبقى الأسئلة معلقة بلا إجابات قاطعة.. ويبقى الأب في منزلة بين المنزلتين، فلا هو بالمغترب الذي يخطط للعودة إلى بلاده ولو بعد حين، ولا هو بالمهاجر الذي يرتب حياته على هذا الأساس ويحاول الاندماج في مجتمع المهجر..

هذا حالي... فأبكاني الشاعر وأشجاني المطرب وتماهى معي الكاتب، وأنا في صراع بين ترك الأبناء والعودة لأرض الآباء!!

copy short url   نسخ
19/01/2023
1060