+ A
A -

يروي إدواردو غليانو في كتابه صيَّاد القصص:

إنه في العام 1959 وصل أول أُسقُف إلى ولاية «تشياباس» في المكسيك، كان اسمه «فرناندو بنيتث»، وعلى الرغم من أنه كان أُسقفاً أحضره المستعمرون البرتغاليون، ليغلِّفَ تحرير السكان الأصليين للبلاد بطابع ديني، إلا انه قال: كيف يكون اسمها حُرية وهي بالأساس قائمة على إذلال الآخرين!

غضبَ منه الأساقفة، وطردوه من منصبه، ولكنه لم يُغادر البلاد، ولأنه كان بلا منصبٍ رسمي، كان يتوددُ إلى السكان، يحثهم أن لا يحنوا رؤوسهم لأحدٍ، ولو كان هذا الأحد قومه الذين ينحدر منهم!

وبعد سنوات من بداية هذا المشهد، ثار شعوب المايا، السكان الأصليون، في وجه الغزاة، وكانوا يطلقون على فرناندو اسم أُسقُف الفقراء!

وأخيراً، قررت الكنيسة ترحيل فرناندو عن البلاد، فخرج أبناء قبائل المايا لوداعه، وقالوا له: شكراً فرناندو، بفضلكَ لم نعُدْ نمشي مُطأطئي الرؤوس!

لا أحد يمكنه أن يجزم متى كان «أول زواج» بين مؤسسة السلطة ومؤسسة الدِّين، هذا زواج موغِلٌ في التاريخ، عَرفته مصر قديماً بين الفراعنة وكهنة معبد آمون، وعرفته أوروبا قديماً بين الأباطرة والفاتيكان، وعرفته دول شرق آسيا، ونعرفه نحن، وسيعرفه الذين سوف يأتون بعدنا! على أنه ليس من المهم معرفة متى بدأ الأمر، ولا متى سينتهي، لأنه لن ينتهي! المهم أن نعرف أنَّ هذا الزواج نتَج عنه أقبح مولود في التاريخ ألا وهو «الاستبداد المقدَّس»، لأنه يجعل أي نقاش في الحياة العامة هو نقاش في ماهية الدين، وأي انتقاد للحاكم هو انتقاد «للهِ»، والعياذ بالله!

ما أرسل الله سبحانه الرسل إلا لتحرير الناس، تحريرهم من أنفسهم، ومن عبوديتهم لشهواتهم وأهوائهم أولاً! وتحريرهم من استعباد الآخرين لهم ثانياً! وكل دعوة لا تقوم على هذا الأساس ليست من الدِّين في شيء، ولا تربطها بالإسلام العظيم أي صِلة! ورحم الله عمر بن الخطاب يوم خلَّدها: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً!

الفتاوى الجاهزة التي على مزاج الحكام يمكن تصنيفها في قائمة «المعلبات» لا في قائمة الفقه!

والفتاوى التي تُفصَّل بسرعة على مقاس الحاكم، الذي يقفُ وراءها هو خيَّاط لا فقيه!

طبعاً ليس مطلوباً أن يُعادي الفقهاء الحُكام، المطلوب أن يأخذوا على أيديهم، وأن يضعوا أقدامهم على الطريق المؤدية إلى الله، إذ لا صلاح للمجتمعات إلا بصلاح حكامها! أما أن يستطرد الفقهاء، والمُحدِّثون، وكبار العلماء، في السُنن والبِدع، وأحكام الطهارة والحيض والنفاس، وعند الأمور الكبرى التي ترتبط بدين الناس، ومصير الأمة، يتحولون إما إلى طبالين أو تماثيل فيا ضياع العلم والفقه، ورحم الله أحمد بن حنبل!

copy short url   نسخ
19/01/2023
650