+ A
A -

اليوم، تعمَدُ كُبريات شركات الإنتاج الإعلامي إلى إنتاج مضامين درامية تحمِلُ أجندات ثقافية مُحدَّدة تُحاول، ما استطاعت، أن تُقدِّمها وفقًا لتكيُّفات اتصالية مختلفة للجمهور؛ أن تصِل الفكرة الثقافية الجديدة وتستقِرّ وأن يُعمل بها شيئا فشيئًا لدى الجماهير. فللتسلية والامتاع وتمضية الوقت؛ يُطل المشاهد اليوم على هذه المضامين المختلفة والتي تنقُلُ جزءا حقيقيًا ومأسوفًا من الواقع الذي يقطع بنا، حيث تُظهر الدراما، على سبيل المثال، التحرُّش والشذوذ الجنسي وزنا المحارم والتعاطي وخيانة الأمانة والغش، وغيرها من الأمراض المجتمعية والأخلاقية بشكل مكثَّف ودون أن تقدِّم لها معالجة درامية تطرح الحُلول وإمكانات العلاج والوقاية.

وهُنا أشير إلى أنه من أبرز أهداف الدراما هو نقل الهُموم والتحدِّيات المجتمعية المختلفة من الواقع إلى المشاهد مرة أُخرى، ليشعُر المتفرِّج (في الدراما التلفزيونية أو السينمائية) أو المستمع (في الدراما الإذاعية) أنه يُطلُّ على جزءٍ مخبوءٍ ومتستِّرٍ من الواقع، تكشِفُهُ هذه الدراما التوعويَّة بكل شجاعة ووضوح، مُبينة جانبًا من خباياه ونتائجه وما تُفرزُهُ من نتائج سلبية تؤثِّر على الفرد والمجتمع. فالمجتمع، أيُّ مجتمعٍ كان في هذا الوجود الإنساني، لا يمكِن أن يكون، بطبيعة الحال، مجتمعًا مثاليًا وأنموذجيًا، خاليًا من أي مشكلات مادية ومعنوية تواجهه، وهكذا الحال بالنسبة للدراما، فهي ليس عليها أن تُقدِّم الواقع الوردي، غير الموجود حقيقة، بل إنَّ من أهم أدوارها أن تقوم بمهمة التعريف والتوعية بالإشكالات المعاصرة الجديدة والتنبيه بآثارها الضارَّة القريبة منها والبعيدة؛ لتفاديها وعلاجها.

وفي ذلك تقول الكاتبة فاطمة الصايغ في مقالها (الدراما وقضايا المجتمع الحقيقية) المنشور في جريدة البيان: «على الرغم من أن كل وسيلة إعلامية قد تختلف عن الأخرى من حيث الغايات والأهداف العليا والمخرجات التي تهدف لتحقيقها، إلا أنها ربما تتفق على هدف واحد في النهاية، وهو التبشير بذلك المجتمع الفاضل حتى ولو كان هذا المجتمع لا يظهر إلا في خيال كتاب الدراما والفلاسفة والمفكرين. ولو تابعنا ذلك الكم الهائل من الدراما الرمضانية، مثلا، لوجدنا أن معظمه يحاول التبشير في النهاية بالقيم الفاضلة وبالطريق المستقيم وبقيم العمل الجاد والوفاء والحب الصافي والاجتهاد في العمل حتى ولو انتهجت شخوصه خلال فترة عرض العمل كافة الوسائل اللاأخلاقية للوصول إلى الهدف. فكما يبدو فإن التبشير بالمجتمع المثالي الفاضل هدف إنساني وعالمي تتبناه حتى أعتى الأنظمة وأبطش الدول وأقوى الديكتاتوريات بعد أن تكون قد عاثت في الأرض فسادا وأحرقت الأرض والنسل وشردت الملايين في سبيل مجتمع فاضل قد لا يأتي أبدا».

قارئي الكريم، من الناس من يعتقد أنَّ الحديث عن مسألة الأجندة الثقافية التي تعمل شركات الإنتاج الإعلامي العربية والعالمية وفقًا لها؛ هو نوعٌ من الترَف البحثي الذي ليس له أساسٌ من الواقع، ففي نَظَر هذه الشريحة العريضة من مجتمع الجماهير أنَّ الفيلم (س) أو المسلسل (ص) لا ينقلُ إلا جزءًا من الواقع إلى المشاهد، وأنَّ هدف هذه الدراما أو تلك ليس إشاعة الجريمة أو إباحة القيم المفسدة في المجتمع، بل إنَّها تقوم بدور التسلية وتعرض، بشجاعة، ما لا يُمكن عرضه أو معالجته في البرامج المجتمعية أو الحوارية على سبيل المثال، كما أنَّ هذه الفئة تَعزو سبب تكثيف المضامين الدرامية التي تحمل هذا النوع من القضايا دون أن تضع لها معالجة أو توعية، إلا أنَّ الجمهور اليوم لا يتعرَّض للدراما كي يأخُذَ منها دروسًا وعِبرًا وعلاجًا لمشكلاته الحالية والمحتملَة، إنما هدف تعرُّض الجمهور للدراما، بحسب رأي هذه الفئة، هو التسلية والإمتاع والترويح.

وفي الحقيقة هذه الفئة الغالبة لا يتعدَّى نظرها الَلقطَة الدرامية وما تحملُهُ من شُحنة عواطف وانفعالات إلى ما خلفَها من اسقاطات تتسلَّل إلى ذهنية الجماهير بكل رويَّة وهدوء، شيئًا فشيئًا، حتى تصبح واقعًا حقيقيًا في الحياة اليومية، فمن مسألة تمييع الأديان والأيديولوجيات إلى تسطيح القيم الأخلاقية (الإيجابية والسلبية سواءً بسواء) وصولًا إلى بث الثقافة الهادمة للحضارة والمجتمع، المتمثلة في السلبية والفردانية واللامبالاة والاضطهاد والفساد. والسؤال الأهم هنا هو: هل كافة الجماهير أصبحَت واعية بما فيه الكفاية ليتنبَّهوا إلى الخيوط الدرامية المسمومة التي تُدَس السُّم في العسل وتنقلها إليها؟ بالتأكيد لا. ثُمَّ أنَّ المشاهد، وإن كان واعيًا بما فيه الكفاية، بهذه السموم الخفية؛ فإنَّ كثافة الإنتاج الدارمي (السينمائي والتلفزيوني والإذاعي) الذي يحمل هذه الأجندات الهادمة أو المُغيبة للإنسان الحضاري؛ ستجعله لا شك يألف هذه القيم أو على الأقل تكون ردة فعله لأي قيمة سلبية في المجتمع أقل منطقًا من ذي قبل، فالمجرم والسكير والعاق والقاتل له مبرراته ودوافعه التي انطلق منها (كما صورته الدراما) والفعل الشنيع مشفوعٌ لهُ نوعًا ما ومُبرَّرٌ له بسبب إرادات مختلفة بعيدة عن إرادة المجرم أو العاق وغيرهم (كما صورته الدراما).

ما العمل إذن؟ من ناحية الإنتاج الدرامي، أعتقد أن المشاركة في إنتاج الأعمال العربية التي تقوم بتمويلها شركات الإنتاج الغربية (مثل Netflix، Amazon Prime Video، iflix وغيرها) له دورٌ فاعِل في تحمُّل مسؤولية النص الخاضع للإنتاج الدرامي، ومحاولة تكييفه ليتناسب مع طبيعة الثقافة والقيم الهادفة، ومن جانب آخر، أجد أنَّ الحملات المجتمعية التي تعكف على تنظيمها وزارات الثقافة والإعلام والمؤسسات ذات العلاقة، بتوعية الجماهير عليها أن تُسهم كذلك في تخطيط وتنفيذ حملات تهدف إلى تعزيز وعي الجماهير بما تحمله المضامين الدرامية المختلفة من قيم وسلوكيات وأيديولوجيات وثقافات دخيلة وغير محمودة.

نقطة أخيرة ومهمة جدًا، متمثلة في دعم الإنتاج الدرامي المحلي، فالكتابة الرديئة وغير الهادفة والإنتاج الضعيف والعشوائي والقوى البشرية (الممثلين) غير المحترفة؛ أدَّت إلى تراجع نسَب الاهتمام والمشاهدة من قبل الجمهور المحلي، وتركيزه على المنصات العربية والعالمية لإشباع حاجاته في التسلية والترفيه.

copy short url   نسخ
15/01/2023
10