+ A
A -

أود الإشارة إلى أن أسلوب اللوع، المبهم، المربك، الحذر، الموقع في براثن الحيرة هو السائد بسوق أسلحة النصب الرمادية، سيما لو استند النصاب لنصوص ظاهرها تُشايع شرع الله وباطنها تُزيّف الوعي.

فقد يطلعك الموظف المماطل على «الروشتة» الباهظة المتعلقة بعلاج زوجته للتلاعب بمشاعرك فتسمي الرشوة إكرامية.

وقد تبيع شركة محمول أرقام هواتف عملائها فيصل لهم مئات الرسائل، التي ما أن يضغطوا عليها بالخطأ حتى يتكبدوا خسائر مادية بدعوى انهم وافقوا على الاشتراك في خدمات لم يطلبوها، فيصرخ الزبون «لا أريدُ»، فيما تتناصف شركة الهاتف النصابة مع شركات الخدمات الواهية أرباح استغلال العملاء بهذه النصبة الرمادية.

يقال: احذر عدوك مرة وصديقك ألف مرة، فالقرابة أو الصداقة قد تمهدان لاستغلالك ما يفسر قيام الزوج بطلب وكالة عامة من زوجته إن وجد ذريعة مقدسة لأطماعه وسندا شرعيا للاستغلال بادعاء رعاية ممتلكاتها، بل يزعم إهماله لأشغاله إعلاء لمصالحها.

وبعض الأمهات يحرمن بناتهن من الميراث بمقاصة أو بدعوى: «أنت ومالك لأبيك» أو بسرد قصص تضحياتهن لذويهن، ما يوحي للأبناء أن السلوك الأمثل لبر الأهل هو التنازل عن المُستحقات.

فكيف يقنن الله النِصَاب في آيات محكمات للمواريث ثم يَسمح بالتلاعب بالحقوق في أحاديث إلا لو موضوعة؟

- حين سُئل ممرض أميركي عن دوافعه في قتل أربعمائة مريض بحَقْن الأنسولين في محاليل الأملاح المعلقة، أجاب:

عملت بتسعة مستشفيات، وكلهم اكتفوا بفصلي لأسباب إدارية، رمادية حين ارتابوا بأمري ولم يتم مواجهتي بجرائمي لخوف المستشفيات على السمعة -أكثر- من خوفهم على حياة المرضى. فكانوا يسكنون ضمائرهم بفصلي عوضًا عن محاكمتي التي ستودي بالثقة في مشافيهم ما يعرضهم لخسائر مادية، يرفضون تحملها.

فالهلع من تكبد الخسائر يحول المستشفيات المنصوب عليها إلي نصّاب محايد، صامت على جرائم الآخرين.

فالحياد موقف رمادي لكنه منحاز بالسلب مع المجرم بالسكوت على شناعاته، ما يُرخص لمزيد من جرائم النصب.

فالمحايد أخس من المُجرم، يداه مغموستان في روح أخيه دون سفك دماء، كونه يؤسس ويؤبلس للظالم ويقوي شوكة المفتري بالتغاضي عن جنايته، ثم أنه لن يخسر الضحية التي تَعشى عن رؤية موقفه الرمادي، والأدهى، أنه يتكسب من المجرم، لسكوته على جرائمه.

محفور في وعي المرء كما في لا وعيه، ما يشبه الأخاديد الناحتة لقدسية الأبوين، فحين تأتي طعنة النصب منهما، تتواطئ الضحية ضد نفسها، لرفضها الاعتراف أن الرحم من زُمرة المحتالين ما يستتبعه من ضرورة اتخاذ قرار الهجر، فتعيش البلبلة برماديتها لضغوط محيطها ولفهمها الخاطئ للمقدس.

ولاستعادة التوازن، تُشرع الضحية في اختلاق مبررات لترقية قرار الإذعان المُختار، سواء لصعوبة قبول عواقب الهجر أو الاعتراف بخطأ عدم الإقصاء، ما يفسر أسباب استمرار البعض في زيجة مدمرة.

تَكمن خطورة النصب العاطفي في خفائها، إذ لا ترى سوى ببصيرة «مكروسكوبية»، فالصداقات المشروطة بدفع إتاوات اعتسافية لاستنزاف وقتك، مالك، أعصابك، كرامتك لاعتمادك كصديق تُحيلك أسيرًا لعلاقة يتم استغباؤك وتطنيشك فيها.

-كان لأحد المعارف صديق مستغل، قد يطلب سبحة من الكهرمان كهدية -الجرام يصل لألف ريال- كما لا يستحي من كشف عورته المادية طلبًا للستر بالمنح، وكان إذا أعطي، استزاد.

فاختار صاحبنا الاستمرار في صداقته مع عدم دفع الإتاوات، فما كان من الجشع إلا أن طلب ربط الحساب البنكي بينه وبين قريبي بدعوى حرمان الصِرافات من نسب التحويلات!

فاستمرار التعاطي السلبي، كمهادنة المتبجحين مع الاكتفاء بغلق صنبور الدعم المادي يقوي شوكتهم، فيستغلون الهُدنة لمعاودة الانقضاض بوقت لاحق..

-الأمر ذاته يتكرر حين يُتَخَذ قرار التستر على المتحرش، فقد ينصب الأهل على ابنهم المتحرش به، بإيهامه أنهم يسترونه -أفهموه أنه اقترف ذنبًا- بينما الحقيقة أنهم يتسترون على المُتحرش، إما للتكسب من مكانته أو لحماية سمعة أسرتهم من القيل والقال.

فيتشتت الضحية، بين دموع الأهل التي مع الحسين، وسيوفهم التي مع اليزيد

ويكون من نتائج النصب الرمادي، وصول رسالة ناصعة الوضوح للمتحرش أنه آمن من العقوبة ما يقوده لمعاودة اقتراف جرائمه بأمان مع ضحايا آخرين، فالمُجرم مومس بثوب أسود مكشوف، أما النصّاب فقوّاد بعباءة رمادية ساترة.

بقلم- داليا الحديدي كاتبة مصرية

copy short url   نسخ
14/01/2023
180