+ A
A -

‫حدث أكبر من طاقة الإنسان الذهنية، وقدراته الوصفية، لا يمكن معه حصر كل هذا الإبداع، لا يمكن أيضاً ترجمة مشاعر الوداع، نحن أمام حالة تحتاج لاستنفار واستذكار لما حفلت به قواميس اللغة والأشعار.. حتى نستطيع ترجمة المشاهد والمشاعر بقلم كاتب على طريقة شاعر.

إنها ليلة ملهمة حالمة بتفاصيلها، مدهشة منعشة بتعابيرها، تداخلت فيها المشاعر والصور، وظهرت فيها الدروس والعبر، وتوحدت معها كل أجناس البشر، سهر فيها العالم مع غسق الدجى على ضوء القمر وقبل شفق الفجر وبعد الظهر في أماكن أُخر، لكن العامل المشترك بين الجميع هو توقيت قطر.. حيث مسك الختام لأجمل مونديال حقق كل الآمال.. أعلن فيه البطل و«العريس» المنتظر.

حالة مذهلة.. قد تكون مرة في العمر.. بجمالها وخيالها.. وفرسانها و«خيّالها»..

اشتعلت فيها الشجون وانفجرت فيها الفنون وخطفت القلوب والعيون..

لم تكن ليلة عادية.. مثل الليالي.. لم تكن سهرة كروية.. أو «عرض اعتيادي»، كانت تحلّق بمشاهدها في العلالي.. لتكتب التاريخ كأفضل نهائي مونديالي.

كل شيء فيها يذكرني بشيء، ارجع بذاكرة السنين، اعود للماضي بحنين، أتذكر مارادونا، ورحلة الدموع والشموع، وقائمة تطول من الأبطال والأساطير، أحاول أضبط أعصابي، ولكني مع كل هدف للتانجو أكاد أطير.. فأنا وكل العالم نراقب البرغوث الصغير.. بل هو النجم الكبير، نشاهد مهاراته، ونتفاعل مع حركاته، وكل تصرفاته، ونتعاطف مع أكبر أحلامه ورغباته، وهو التتويج في هذا العرس المثير كبطل للمونديال وملك للعبة.

ولم يخذلنا ليونيل.. فكان العريس في استاد لوسيل، وختم المشوار بالإبداع والإبهار، ولبس البشت القطري في لحظة توقفت فيها عقارب الزمن، ليقبض على الكأس التي عاندته طوال مسيرته وصالحته في حفل الوداع لبطولات كأس العالم «غفرت لك قسوتك، حبي الكبير يحرسك»، بودعك «بشوق.. لمسة وداع يا ملك».

مباراة تلاعبت بالأعصاب، تمايلت بين الفرح والاكتئاب، الكل يريد الكأس والحظوة بسيل الإشادات والإعجاب، ونحن نتابع ونريده النهائي «الأفخم» مستوى «فني وأهداف».. فكان «عالوعد».. «عرس كروي» كامل الأوصاف.

ونراقب «حلم ميسي»، ونرى الكأس تقترب وتبتعد، فالخصم الشرس قادر على قلب الطاولة في أي لحظة ويكفي أنه «البطل».. وفجأة حدث التعادل السريع، مما أصاب جمهور التانجو في مقتل.. لكن كل ذلك لم يقلل من تفاؤلي.. فالحلول ستغطي الخلل، رغم الأحداث الدراماتيكية، وعاد إلى أذهاني خاطرة «ما حد عرف شا للي حصل.. ماحد لمس مثلي الأمل» !

كنت أراها ذاهبة باتجاه من خدم اللعبة ويستحقها في ختام مشواره.. إنها عدالة كرة القدم.

فإذا كانت الأرجنتين قد استأنفت حضورها في قائمة أبطال المونديال بعد غياب 36 سنة، ومن قطر مجدداً إذ سبق لها الفوز بكأس العالم للشباب 95، فإننا نرفع القبعة أو «الشابوه» للمنتخب الفرنسي، وهو في نظري «بطل غير متوج» على هذا الأداء البطولي، بقيادة صاروخ الأباتشي مبابي، والذي قاد فريقه لتقديم مستويات فنية مبهرة بشخصية البطل حتى الرمق الأخير من المونديال، وللشعب الفرنسي أن يفخر بهذا المنتخب ومدربهم وأن يستقبلوهم كما لو كان معهم كأس العالم.

فالمستقبل مازال أمامهم، ونجمهم مبابي هو من استلم الشارة من ميسي أمس، وسيكمل مشوار أفضل اللاعبين في العالم ربما لسنوات قادمة، فهو المهيأ بكل المقومات ليصبح الوريث المستحق لخلافة ميسي في النجومية الخارقة والإمكانيات الفارقة.

وهذه هي كرة القدم.. تسعد وتبكي، مليئة بالعواطف، والعواصف، ونتائجها متأرجحة.. فيوم لك ويوم عليك.

فالأرجنتين التي بدأت البطولة بخسارة هزت العالم على يد المنتخب السعودي، مما أضعف من حظوظها في البداية، وجدت نفسها في مشهد النهاية، ومع الكأس الذهبية، وكأن خسارة الافتتاح بمثابة «لقاح» زاد من مناعة الفريق ومتعته.. واستعاد سمعته.

والسؤال الظريف الذي أطلقه أحد المشجعين السعوديين «where is messi» أو الأهزوجة الطريفة «ميسي وينه؟» التي أصبحت في ما بعد «ترند» في السوشيال ميديا.. كانت هي بمثابة «الريمونتادا» للمنتخب الأرجنتيني ليعود للبطولة بمخالب وأنياب ولم يتوقف حتى «تزيّن» بكأس البطولة وبشت العريس.

آخر نقطة..

ليلة تكتب بماء الذهب، وبطولة يخلدها التاريخ، وتفتخر بها العرب، فهي من قدمت سماحة دينهم وسمو ثقافتهم وعلو قيمهم، وقدمت للعالم عرضا حافلا في مستوى التنظيم الاحترافي، وفي النجاح الجماهيري وفي الحفاظ على الهوية والعادات والتقاليد العربية، بداية من حفل الافتتاح في استاد على شكل بيت الشعر البدوي، وختاماً بتتويج البطل بالبشت القطري.. بعد ختام هوليوودي اكتملت فيه أركان الإثارة والندية، واستحق لقب أفضل مباراة نهائية.. إنها فعلاً نسخة تاريخية.

مونديال تعرض لكل أنواع الهجوم منذ الأيام الأولى لإعلان الاستضافة حتى صافرة النهاية.. وعلى مدار 12 عاما حولت قطر وقيادتها وشعبها كل هذه الانتقادات والحملات إلى حافز ورغبة أكبر في خوض التحدي العالمي، ثقة في إمكانياتها الفنية، وخطواتها المدروسة، وخطها السياسي، وحسها الإنساني، فجاءت النتائج على مستوى العمل وحقق المونديال أفضل الأرقام، وترجم الطموحات والأحلام.. وسارت الأمور إلى شاطئ الأمان.. وكانت أهم الدروس والعبر.. المضي قدماً بالعزم والصبر.. فنجحت البطولة وتفوق العرب وفازت قطر.

محمد حمد المري - رئيس التحرير المسؤول

copy short url   نسخ
19/12/2022
140