+ A
A -
جريدة الوطن

بـــدأت أول كأس عالم في العام 1930 بحدث طريف، فباستثناء فرنسا وبلجيكا ورومانيا ويوغوسلافيا، رفضت جلّ الأمم الأوروبية العريقة مثل إيطاليا وإسبانيا المشاركة في مونديال الأوروغواي، بسبب غلاء تذاكر النقل، وطول مدة السفر، حتى إن الفرق الأربعة التي أنقذت النسخة تقاسمت تكاليف الرحلة، كما اضطرت لإجراء التدريبات فوق سطح الباخرة، على مدار السفرية التي دامت أسبوعين.

الأطرف وقع في اللقاء النهائي بين الأوروغواي والأرجنتين، إذ دبَّ خلاف بدائي بين الفريقين حول الكرة التي ستُلعب بها المباراة، فقد كان لكل فريق كرة، وتفادياً للإشكال لجأ الحكم للقرعة، التي أقرت بأن يُلعب الشوط الأول بالكرة الأرجنتينية، والشوط الثاني بالكرة الأوروغوانية. سجّلت الأرجنتين بكرتها هدفين خلال الشوط الأول، غير أن الأوروغواي عادت في الشوط الثاني لتعادل بكُرتها النتيجة، ثم تقلب الطاولة بهدف ثالث، ثم بعد وقت عصيب ميّزه الخوف من تعديل النتيجة، بواسطة مهاجم الأرجنتين الخطير ستابيل، تمكّن لاعب غريب الأطوار يُسمى هيكتور كاسترو من تسجيل هدف رابع وحاسم، حرَّر به مائة ألف متفرج احتشدوا بملعب السانتناريو، لينهي المونديال مثلما بدأه، حين سجل أول هدف لبلاده ضد البيرو.

بدا أن المونديال الذي عرف مشكلات فولكلورية سيخرج بواحدة من أعظم قصص النجاح من رحم المعاناة، ولقد تجسد ذلك فعلاً والآلاف من أبناء الأوروغواي يهتفون بحياته ومجده: «فيفا المانكو».

حمل اللاعب هيكتور كاسترو، ابن مهاجرين إسبانيين فقيرين، هذا اللقب اللعين، الذي يعني «ذو الذراع الواحدة»، منذ أن كان في سنه الثالثة عشرة، لمّا قطع منشار كهربائي ساعده اليمنى خلال مساعدته والده.

يومها لم يتوقع أحد من عائلته أو من أصدقائه أن يكون له شأن في الحياة، ما بالك بكرة القدم، تلك اللعبة التي عشقها منذ سن الخامسة.

وصحيح أن المنشار فتك بيده لكنه لم يفتك بإرادته، منذ اللحظة التي قرر فيها مواصلة حلمه الشخصي باحتراف الكرة رغم الإعاقة البائنة.

انتمى هيكتور «المانكو» منذ العام 1923 لفريق ناسيونال مونتيفيديو، وسرعان ما أثبت تلك الجدارة في ميدان الحقيقة، ثم في عيون الناس، إذ سجل عدة أهداف حاسمة، أجبرت فريق الناسيونال على شرائه بعقد احترافي من فريق مغمور، فتُوّج معه بثلاث بطولات وطنية، ثم كان يحصد بعد انضمامه للمنتخب الوطني كأس كوبا أميركا العام 1926، وذهبية أولمبياد 1928، مسجلاً هدفاً ضد هولندا، البلد المضيف، قبل أن يشارك في مونديال 1930. وفيما انتهت مسيرته كلاعب دولي العام 1935 بتتويج آخر بكوبا أميركا، كان عداده التهديفي يحصي حصيلة جيدة بـ18 هدفاً في 25 مباراة.

واصل «المانكو» تألقه في عالم تدريب فريق الناسيونال الذي لعب له، فنال معه 5 ألقاب وطنية، فتحت له العام 1959 أبواب تدريب «الأزرق السماوي»، قبل أن يوافيه الأجل في العام 1960.

رحل «المانكو»، لكنه نقش اسمه في الذاكرة العالمية، حيث اعتبره (الفيفا) الوحيد من ذوي الاحتياجات الخاصة الحائز كأس العالم. أما مارادونا فقد تذكره في مونديال مكسيكو 1986، حين سمى الهدف «الاحتيالي» الذي سجله ضد إنجلترا بيده «يد الإله»، تلك الكنية التي أطلقها الناس على «المانكو»، بعدما اشتهرت ملحمته في أميركا الجنوبية، لقد رأى كثيرون أن الله اختار هذا المبتور ليؤكد للبشر أن المعاق يمكنه رفع كأس بيد واحدة بدل يدين.

أما الفرنسي جول ريمي فقد رأى فيه التجسيد الرمزي لقصة كأس العالم ذاتها، التي شهد بعثها عدة عوائق، لتنتصر في نهاية المطاف.

فسّر كثير من التقنيين المختصين في الكرة نجاح اللاعب بإعاقته نفسها، لمّا حوّلها لسلاح قوي، ذلك أن افتقاده للساعد اليمنى فسح له القدرة على وضع جذعه كواقٍ يعطل به حركة المدافعين خلال الالتحام، فكان سباقاً في الانسلال على الأروقة، والارتقاء لتحويل الكرات الهوائية لأهداف رأسية قاتلة.

غارينشا.. الأعرج صاحب «مراوغة الشيطان» الذي حاز كأس العالم مرتين

عندما قدم ذلك الفتى القصير، الذي لا يتعدى طوله 1.69 سنتيمتر، من بلدة «باو غراندي»، للالتحاق بفريق بوتافوغو ريو دي جانيرو، كان الجميع ينظرون إليه بغرابة، فقد كان ذا هيئة قزمية، أما قدماه فكانتا مقوستين بشكل غير طبيعي. كان يعاني -على ما يبدو- من عيوب خلقية جمة، منها اعوجاج في العمود الفقري.

صاح طبيب الفريق الذي فحصه مستغرباً: «إن هذا اللاعب يمكن أن يخدع أي طبيب، إذ يكفي الاستنتاج من أول نظرة بأنه يصلح لكل شيء عدا ممارسة كرة القدم، لكن الحقيقة غير ذلك تماماً».

سجل «الحالة الشاذة» ثلاثة أهداف في أول مباراة، وما من أحد توقع أن يصلح «مانويل فرنشيسكو دو سانتوس» لأي شيء في الحياة، إذ كان مهدداً قبل ذلك بالشلل مدى العمر، ناهيك عن أنه كان يعاني من انخفاض معدل الذكاء بشكل لافت، فهو بريء وساذج وبليد، وغير مكترث بما يجري حوله، لا يكاد يعرف أسماء اللاعبين، ولا حتى الفرق والبطولات الكروية. يروي عنه رفاقه حكايات طريفة، منها أنه كان يسألهم خلال بداية صافرة المباريات: «مع من سنلعب الآن».

يجيبه ديدي وفافا: «الشيلي»، فيجيب بطريقة مضحكة: «أوه أولم نفز عليهم من قبل؟ لقد غلبناهم السنة الفارطة فكيف نلاعبهم مرة أخرى». في إحدى المرات صاح ساخراً، حينما أخبره صديقه أن مباراة وحيدة تفصلهم عن نهائي المونديال: «ما هذه البطولة التعيسة التي تنتهي بسرعة».

لم يكن يفرق بين بطولة كأس العالم التي تنظم في شهر، وبطولة البرازيل التي تجرى في مرحلتين على مدار العام، ولا حتى بين مباريات التصفيات.

في واقع الحال، عانى ماني الشهير «غارينشا» من اختلال في القدمين، فرجله اليمنى أطول من رجله اليسرى بستة سنتيمترات، وما بدا عاهة سيكون عامل قوة لهذا الجناح الطائر، فتقوّس رجليه خدع به كل المدافعين العاجزين عن قراءة طريقة اشتغالهما في استباق حركتها، علاوة على أن القدم الممتدة تمنحه ردة فعل سريعة تسبق أي تدخل، كما لو أنها عصا هوكي خفيفة، وما يفعله غارينشا في المدافعين بتلك الحركة المسماة «مراوغة الشيطان» جعله يعبرهم مثل الريح من الوسط، ثم ينحرف إلى اليمين، ويعيث فيهم «فساداً»، قبل أن يتوقف معيداً الكرّة مستعيناً بقوة الفخذين القويتين.

في أول ظهور بكأس العالم 1958 بالسويد أبهر الجميع بأسلوبه الفريد، خاصة منذ لقاء الاتحاد السوفياتي في الدور الأول، وخلال مواجهة السويد في النهائي زعزع ماني رفقة الأسطورة بيلي الدفاعات السويدية، مساهماً عبر الرواق الأيمن في تمريرتين حاسمتين، توجتا البرازيل بأول كأس عالمية، ليخرج منها كأحسن جناح في العالم، أما الشعب البرازيلي الذي عرفه منذ 1953 في نادي كاريوكا بوتافوغو، فقد اعتبره مصدر سعادته، بأن لقّبه «أليغريا دو بوفو»؛ أي «سعادة الشعب».

عندما خصّ البرازيليون منتخب السيليساو باستقبال تاريخي كان هو يلتحق بقريته تاركاً كل شيء وراءه، ليقول «لا شيء مثيراً في الحياة غير الجلوس مع الأصدقاء والذهاب للتسوق في القرية، لا أحب أن أكون معبود جماهير، الشعب يحب ذلك، حسناً هذا جيد له، أما أنا فهذا غير جيد لي، ليس هذا مبتغاي في الحياة».

في كأس العالم الشيلي 1962، عاد غارينشا من جديد بأكثر قوة وجرأة، رغم ما اعترى حياته من مآزق إدمان للخمور والمغامرات مع النساء، في تكرار بائس لتاريخ والده.

فبعد إصابة بيلي في اللقاء الثاني ضد تشيكوسلوفاكيا، والتي حبست أنفاس البرازيل والعالم، تولى الأعرج غير المكتمل حمل الفريق على عاتقه، من خلال القيادة الباهرة للحملات الهجومية، ثم بتوقيعه هدفين في ربع النهائي ضد إنجلترا، وثنائية أخرى في النصف النهائي ضد شيلي، وقد كاد يضيع النهائي عقب طرده من المباراة، غير أن الطعن ضد القرار الخاطئ للحكم أعاده للعرس الختامي، الذي شهد زفاف الكأس لفريق السامبا، بعد تغلبه على تشيكوسلوفاكيا بثلاثة لواحد، وقد نسبت الكأس له، فسُميت «كأس غارينشا»، عرفاناً بدوره الحاسم في تلك الدورة.

عندما بدأت قصة علاقته الغرامية مع المغنية الشهيرة إيلزا سواريز تأخذ أبعاد الخيانة السريرية لزوجته نايرة، وبناته السبع، تعرّض لانتقادات حادة، واستهجان فئات عريضة من المجتمع البرازيلي المحافظ، خاصةً بعدما هجر البيت للعيش مع عشيقته، وازدادت متاعبه بعد تعرضه لإصابات بليغة في الركبة، واكبتها خلافات كبيرة بسبب تدخل صديقته لدى إدارة بوتافوغو لإنصافه، والحق أن تلك المرأة التي كرهها البرازيليون كانت تسعى لخدمة مصالح «اللاعب المظلوم» الذي ظل يتلقى جراء سذاجته أجرة زهيدة، لا تتوافق مع عبقريته الكروية، لينتهي مشهد السقوط برفض تجديد عقده، فجرب حظه في نوادٍ أخرى بالبرازيل وخارجها دون نجاح، بفعل حالة الإحباط التي لازمته.

توفي غارينشا العام 1983 عن عمر 49 سنة، متأثراً بداء تليف الكبد، جرّاء تعاطيه الكحول بشكل مفرط على مدار أربعة أيام كاملة، تلت سنوات سوداء لخيبة حب عنيفة، فقد تركته عشيقته بسبب الإدمان والإفلاس.

رغم النهاية التعيسة لمن كان يسمى «سعادة الشعب» فقد بكاه ملايين البرازيليين، احتراماً لفترة توهجه الكروي، وتاريخه التليد.

لم يكن عاشق الكرة يعلم أن الحب سيكون قاتلاً لموهبته، إذ كان يقول «الكرة مثل المرأة، عليك أن تلاطفها بحنان، إذا داعبتها بهذه الطريقة ستعود إليك، وستبقى دائماً إلى قربك».

أما إيلزا فقالت يوم وفاته «الكل كان يريد غارينشا إلى جواره، لكن الرب أراده إلى جانبه».

أما كنيته «غارينشا» التي منحتها له شقيقته وعمره أربع سنوات، فكانت ذات قوة تنبؤية رهيبة، فهي تعني عصفوراً محلياً تقول بشأنه الأساطير: «يفضل أن يموت حراً على أن يعيش أسيراً».

توستاو: الرادار البصري الذي حطّم الدفاعات في مونديال المكسيك

لم يخطئ الأسطورة بيلي، قبل أعوام، عندما قال عن زميله إدواردو كونسالفاز دو أندراد، إنه لاعب لا يقل أهمية عن مارادونا وميسي.

لا ينسى الجوهرة السوداء أن ذلك الفتى ذا العينين «الواسعتين» كان لقّب العام 1966 بالملك الأبيض، حين قاد فريقه للفوز عليه وعلى فريقه سانتوس بسداسية مقابل هدفين.

ولد إدواردو في بيل أوريزونتي في عائلة ميسورة، فأبوه موظف بنك، بيد أنه فضل احتراف الكرة، ونظراً لشكله الطفولي وطوله المتوسط 1.72سم فقد لقبه رفقاؤه بـ«توستاو»، وتعني «السنتيم»، أي أصغر قطعة نقدية برازيلية.

طوال مشواره الكروي سجل «السنتيم» 274 هدفاً في البطولة المحلية، وأمضى 32 مع الفريق الوطني، لكنّ قدميه لم تكونا سبباً في استدعائه لمنتخب السامبا منذ العام 1966، أو لمونديال المكسيك 1970، إذ كانت التشكيلة تعج بخط هجومي بركاني، مشكل من مثلث النار بيلي وريفينيلو وجايرزينو، بل لأن المدرب زغالو كان يرغب في استثمار نظرته الثاقبة في الملعب، وتلك الرؤية الخارجة عن المألوف داخل الميدان، والسبب خلقي بحت، فعيناه الواسعتان الشبيهتان بعيون السمكة تؤهلانه ليكون «الدينامو»، الذي يصنع نظير ما تمتع به من ذكاء مفاتيح اللعب، وتمرير الكرات الدقيقة في التوقيتات اللازمة، وفي المساحات القاتلة.

سمح توظيف المهاجم في خط الوسط في مضاعفة القوة التهديفية للبرازيل، التي سجلت 19 هدفاً في 6 مباريات، أما هو فسجل هدفين ضد البيرو، صنف أحدهما بين أعظم مائة هدف في تاريخ البرازيل، عندما أرسل الكرة بيسراه في زاوية مغلقة لم يرها أحد غيره.

في شريط وثائقي عن زاغالو يؤكد لاعبون قدامى:«بعينين متباعدتين كان يرى أشياء لا نراها في الملعب»

ثم إن العين التي صنعت مجد «توستاو» ستمهله لوقت قبل أن تخذله إلى الأبد، فقد كاد يضيع كأس العالم 1970 جراء إصابة عنيفة بالكرة في الوجه، بعدما أبعدها مدافع فريق كورنثيانس، فسببت له انفصالاً في الشبكية العام 1969، ثم عاودته تلك الإصابة العام 1973، بعد فترة من التحاقه بفريق فاسكو، لينصحه الأطباء بالتوقف عن اللعب تفادياً للعمى الشامل.

اعتزل الكرة وعمره 26 سنة، ليصبح -للمفارقة العجيبة- طبيباً!

copy short url   نسخ
16/12/2022
30