حرب إبادة لم يشهد لها العصر الحديث مثيلا، هي جريمة بكل المقاييس العالمية، وكارثة بجميع المعايير الإنسانية، وهي تعبير عن القسوة والوحشية في أبشع صورة، وترجمة للظلم والاستبداد في حق شعب أعزل ومدينة مقهورة.
لأول مرة لا توجد كلمات قادرة على التعبير عن مدى فداحة ما يحدث، فهو شيء لا يصدقه عقل، ولا يقبله ضمير، ولا تقره أعراف.
كان النازيون هم المثال الأوضح على البشاعة، عبر التاريخ، لكنهم كانوا يترددون أمام دور العبادة والمستشفيات والمدنيين، وحدهم القتلة الذين استباحوا حلب دمروا كل شيء: البشر والحجر والمستشفيات والمساجد والقلاع والأسواق التاريخية.
لم يبق من حلب سوى أكوام حجارة، ونساء يفكرن بالانتحار، خوفا من الاغتصاب، وجثث أطفال تم قتلهم بدم بارد، وشباب أُحرقوا أحياء، ولاجئين ضاقت بهم السبل، وكل دروب الحياة.
وسط هذا المشهد المروّع، كان تحرك قطر، عبر أكثر من قناة، وعبر كل وسيلة من شأنها أن توقف هذا الجنون، وكان حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدى، أول المبادرين، على أمل حقن ما بقي من دماء، وإنقاذ ما تبقى من حلب، ومن التاريخ.
كانت قطر سبّاقة دائما، من منطلق واجبها الإنساني والتزامها الأخلاقي، فمساعداتها لم تنقطع يوما لتخفيف معاناة أهلنا في سوريا، من بقي منهم ومن ارتحل، خوفا وهلعا.
احتضنت هؤلاء اللاجئين في أماكن نزوحهم، ومدّتهم بأسباب الحياة، أعطتهم الدفء، وقدمت العلاج والعيادات، وعمّرت لهم المدارس، وكل ما من شأنه مساعدتهم في محنة لم يشهد لها البشر مثيلا.
بالأمس، وقطر في ذروة الاستعداد ليومها الوطني المشهود، وجّه صاحب السمو بإلغاء كافة مظاهر الاحتفال، تضامنا مع أهلنا في مدينة حلب، وكان قرارا عظيما وبليغا، فكيف نحتفل وحلب تذبح من الوريد إلى الوريد؟.. كيف نحتفل والأحياء فيها يُحرقون ويُمثل بجثثهم؟.. كيف نحتفل وهذه المدينة تُطفئ شعلتها لأول مرة عبر التاريخ؟.. حيث شهدت هذه المدينة الأكبر في سوريا، والأقدم في العالم، توالي عشرات الإمبراطوريات، والدول العالمية، والإقليمية، من الإسكندر الأكبر إلى الانتداب الفرنسي، وخلال أكثر من ألفي عام بقيت صامدة قبل أن تشهد أفظع دمار في تاريخها على يد «الجيش العربي السوري» وحلفائه وميليشياته وعصابته وشبيحته، هؤلاء القتلة المعتدون الذين ستبقى أفعالهم في حلب شاهدا على مدى الشر الذي يمكن أن يرتكبه الإنسان متى ما تجرد من أخلاقه وقيمه.
صمدت حلب قرونا طويلة ضمن إمبراطورية الإسكندر الأكبر، وصمدت عندما احتلها الملك ديكرانوس الثاني، وصمدت بسيطرة القائد الروماني بومبيوس الكبير، عليها، وعندما صارت ضمن الامبراطورية البيزنطية.
صمدت عام 540 ميلادية، عندما قام الفرس بإحراقها بقيادة الملك كسرى الأول فيلسوف الدولة الساسانية، بعد نقضه لمعاهدة السلام الأبدية مع الامبراطورية البيزنطية عام 532 ميلادية، لكنها استعادت المدينة مرة أخرى، قبل أن يتجدد اعتداء الفرس عليها مرة أخرى عام 608 ميلادية، لتستمر بذلك الدولة الساسانية حتى عام 622 ميلادية عندما أعادتها الدولة البيزنطية تحت إمرتها مرة ثالثة.
صمدت حلب عندما غزاها المغول مرتين، ودمروا جوامعها وأسواقها، وفي كل مرة كانت تتغلب إرادة الحياة على أرواح الشر.
شهدت الحكم الإسلامي وازدهرت في ظله، ومرت بمرحلة الانتداب الفرنسي، وشهدت أول انقلاب عام 1949 بقيادة الضابط الحلبي حسني الزعيم، الذي فتح الباب أمام انقلاب الضابط الآخر سامي الحناوي، وهذا ما حرَّض على انقلاب آخر بقيادة أديب الشيشكلي، إلى الإعلان عن الوحدة الوطنية بين مصر وسوريا عام 1958 في عهد جمال عبد الناصر.
حلب قصة التاريخ وخلاصته، ولأنها كذلك انتفضت مطالبة بالكرامة والحرية، وتحولت إلى ركيزة كبيرة في الثورة السورية.
الآن تُعاقب حلب على تاريخها، وعلى عروبتها، وعلى تنوعها الديني والثقافي والحضاري.
يعاقبها الجلاد الأكثر شرا، يشرب من دمها حتى الثمالة، ويقتص من أسواقها وجوامعها ومدارسها ومستشفياتها وشوارعها وأزقتها، من أهلها ونسائها وأطفالها، من شبابها ومن حرفييها المهرة، ومن صناعاتها ومن أطعمتها ومطبخها، ومن نهضتها الاقتصادية الفذة.
الذين دمروا حلب أعداء الإنسانية، صنف لا ينتمي إلى البشر، بشع، عدواني، يحركه الشر، وشهية القتل، والتدمير، وما رأيناه حتى الآن هو قمة جبل الجليد فحسب، ومن المؤلم أننا سنشهد لاحقا الصورة كاملة بكل عبثيتها، ودمويتها، سنرى حلب كما في العصور الحجرية، بل أسوأ وأكثر من ذلك بكثير.
من هنا كان تحرك قطر، ومن هنا جاء توجيه صاحب السمو بإلغاء كل مظاهر احتفالنا باليوم الوطني، فلا مكان للفرح، ولا مكان للاحتفال، ولا مكان لأي مظهر يمكن أن يطغى على هذه المأساة والكارثة.
يرى نظام دمشق وداعموه أن استعادة السيطرة الكاملة على حلب أمر حاسم لبقائهم، وحولوا المدينة العظيمة إلى خراب وأكوام حجارة وتراب وجثث تحت الأنقاض.
كان أول ما فعله هؤلاء القتلة هو تصفية العاملين في آخر مستشفى، أصحاب «الخوذة البيضاء» وقتل الأطفال والنساء وحرق الشباب.
لم نسمع أن المغول فعلوا ذلك، بل لم نسمع أن أحدا فعل ما فعله هؤلاء، لم يُرْوَ أن أحدا انتقم من التاريخ، ونكّل بالنساء والأطفال، لا، هذه صناعة جديدة، هي كل ما يتقنها أولئك الذين استباحوا حلب اليوم، لكن السؤال إلى متى؟.
الإجابة يقدمها تاريخ حلب، والدروس هنا كثيرة، والإجابة يقدمها أيضا هؤلاء الذين آمنوا بالعروبة، وآمنوا بالإنسانية، كما فعلت قطر، وبعض الدول الصادقة في تعاملها مع الأزمة عبر تقديم المساعدات والقوافل الإنسانية لإغاثة أهلنا هناك.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
«مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو: تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى».
لقد سهرت قطر لإنقاذ اللاجئين السوريين، وقدمت كل ما يمكن أن يساعدهم ويؤازرهم ويحميهم، والآن تتحرك على كل مستوى من أجل وضع حد لهذه المأساة الفظيعة.
لا وقت للاحتفال، لكن أيضا لا وقت للدموع، فالأخوة والأهل في حلب بحاجة للمساعدة والمؤازرة ولأفعال من شأنها وضع حد لمعاناتهم، أمام الجريمة البشعة التي ارتكبت بحقهم، إنها أم الجرائم، وهي جديرة بهؤلاء الظلاميين القتلة.
توجيه صاحب السمو بوقف كل مظاهر الاحتفال بيومنا الوطني، يتناغم مع مواقف قطر الثابتة في دفاعها عن قضايا الأمة، عن تاريخها، وعن إنسانيتها.
الدول تقاس بمواقفها، لا بمساحاتها، ولا بعدد سكانها، ويكفينا فخرا أننا نقف مع المظلومين، حتى أصبحت قطر كعبة المضيوم، فإذا كنا بنظر «البعض» المريض دويلة، فالقرارات ترد على الأرض، والأفعال تتحدث، سواء على الصعيد الدبلوماسي أو الشعبي أو الإنساني، لا نستعرض، فهذا واجبنا وليس لنا «وجهين» أو نلعب على الحبلين.. لا نتحدث نظريا عن معاناة الشعب السوري ثم نبصم على قرارات، ونصوّت لإجراءات تؤذيه وتوجعه وتفجعه.. ولا نغيب عن المشهد أو إطفاء الحريق، وكأننا نغط في سبات عميق..
الحياة مواقف والتاريخ لا يرحم.
- محمد حمد المري
رئيس التحرير المسؤول