+ A
A -
تحليل- د. العروسي العتروس

شهدت الجولة الأخيرة من الدور الثاني لبطولة كأس العالم فيفا 2022 سقوطا مدويا لمنتخب إسبانيا المصنف عالميا هذا الأسبوع بالمركز السابع وبطل العالم بجنوب إفريقيا 2010 أمام منتخب المغرب العربي المصنف عالميا بالمركز 28 وعربيا بالمركز الأول قبل تونس والجزائر وإفريقيًا بالمركز الثاني بعد السنغال. . وانتهت موقعة المدينة التعليمية العالمية بنتيجة التعادل السلبي بعد الوقت الأصلي والوقت الإضافي وفي الركلات الترجيحية القاتلة بقي المغرب ممثل العرب على قيد الحياة بإحرازه 3 ركلات صحيحة مقابل ركلة إسبانية واحدة، ليتأهل المغرب للدور ربع النهائي ويكتب تاريخه بأحرف غليظة وتتواصل الاحتفالات في انتظار اللقاء الحاسم أمام منتخب البرتغال ورونالدو الذي أقصى منتخب سويسرا بنتيجة قاسية جدا بلغت حصيلتها نصف درزن من الأهداف.

عناصر القوة عند المغرب

عندما نستعرض شريط المواجهة من جديد فإننا نجد أنها لم تكن مباراة كرة قدم فحسب وإنما كانت أيضا مواجهة نتيجة أكثر مما كانت مباراة أداء، وهذا ما أراده المغاربة على الرغم من أن الإسبان هم الذين بدأوا باستخدام الاندفاع البدني واللعب الخشن في حدود قواعد اللعبة بحيث بلغ عدد المخالفات التي ارتكبوها في الشوط الأول 10 مخالفات مقابل 3 فقط للاعبي منتخب المغرب الذين تداركوا الموقف ودخلوا في دائرة اللعب الرجولي في الشوط الثاني لتنتهي المباراة بعد 120 دقيقة بـ15 مخالفة مرتكبة من لاعبي المغرب مقابل 14 للاعبي إسبانيا، وفيما يتصل بالاشتراك على الكرة فقد كانت الغلبة للاعبي المغرب الذين حققوا تفوقا بلغ 60% مقابل 49 % للإسبان، على الرغم من أن التفوق في التعامل مع الكرات العالية كان لصالح منتخب إسبانيا بـ14 مقابل 10.

وعلى صلة بالموضوع نشير إلى أن منتخب المغرب وجه جزءا كبيرا من جهود لاعبيه للعب بدون كرة حيث رصدنا 26 عملية استخلاص دفاعية للكرة مقابل 11 للاعبي منتخب إسبانيا، كما قام خط الدفاع المغربي بتشتيت الكرة 41 مرة وهو عدد قياسي مقابل 13 مرة لخط دفاع إسبانيا.

كل تلك الأرقام التي عرضناها تكشف بوضوح نقاط القوة لدى لاعبي منتخب المغرب وهي العناصر التي يمتلكها المدرب الركراكي ولاعبوه، إلا أنها تتعلق بجزء واحد من جزأي اللعب وهو الجزء الخاص باللعب بدون كرة، أما الجزء الآخر فقد كانت أوراقه بين أيدي منتخب إسبانيا ومدربه لويس إنريكي، وتبين في نهاية الأمر أنها ليست هي التي حسمت المواجهة، وسنبين ذلك في السطور التالية وما بينها.

مواجهة غير قابلة للمقارنة النظرية

احترم منتخب المغرب منافسه الإسباني بالصورة التي تليق به إلا أنه لم يواجهه بأقل أو أكثر من ذلك.

وما من شك في أن القيمة الفنية والسوقية للمنتخبين كانت ظلالها حاضرة في أجواء المواجهة لتعكس الفارق الكبير بين المنتخبين من الناحية النظرية وعلى الورق قبل أن ينطلق النزال الكروي على بساط أرضية استاد لوسيل الجميل.

وكان من الواضح أن الجماهير الإسبانية كانت تحترم المنتخب المغربي ولكنها لم تكن تهابه، ويبدو أن اللاعبين الإسبان لم يهابوا المنتخب المغربي الذي يلعب عددا كبيرا من لاعبيه عند أنديتهم وفي ديارهم وفي مقدمتهم حارس المباراة نجم المواجهة وصانع المجد فيها، ولنا أن نتفهم ذلك عندما ندرك أن القيمة السوقية للمنتخب الإسباني تبلغ 800 مليون يورو وتضعه بالمركز الخامس خلف منتخبات إنجلترا والبرازيل وفرنسا والبرتغال، وعندما نتأمل في سيرته الذاتية ونطلع على القائمة الاسمية للاعبيه وعلى هوية مدربه الكبير لويس إنريكي.

أسلوبان من الأداء مختلفان

وضعت المواجهة منتخبين مختلفين من الناحية النظرية وجها لوجه وهذا الاختلاف يفسر أسلوب الأداء المختلف الذي نسجت عليه المباراة شريطها، وكان من الواضح أن كل منتخب وضع استراتيجيته التكتيكية بناء على مواطن القوة في تركيبته البشرية، وشاهدنا منتخبا يستخدم أبرز أسلحته التي قادته للفوز بكأس العالم قبل 12 سنة في أقصى بقاع الأرض بالجنوب الإفريقي وهو سلاح الاستحواذ على الكرة المبني على بناء اللعب الهادئ عرضيا وطوليا قبل اختراق الخطوط الدفاعية ببداية الهجمات على الأروقة الجانبية وإنهائها من داخل منطقة الجزاء.

وهذا الأسلوب الذي بنت عليه الأندية الإسبانية مجدها والكلام هنا على برشلونة قد بدأ يهترئ ويتآكل بعد أن تغيرت الظروف والملاعب واللاعبون والمدربون وتمت دراسته ومعالجته بالطريقة التي تبطل مفعوله، وهو ما يفسر تراجع نتائج الكرة الإسبانية على الساحة العالمية، ويأتي الفوز المغربي ليؤكد سقوط نظرية الاستحواذ للأبد.

وصدق «رودري».. ولكنه لم يقل كل شيء

حقق منتخب إسبانيا نسبة عالية جدا من الاستحواذ بلغت 75% طيلة أغلب فترات اللعب في المباراة مقابل 24 % لمنتخب المغرب وهذا يعني أن منتخب إسبانيا احتكر اللعب وسطر على مجرياته طيلة الشوطين إلا أن تتبع المواقع التي دارت فيها المناورات الهجومية تفيد بأن 51 % من مجريات اللعب دارت في منطقة وسط الملعب، وفي المقابل فإن مناطق المنتخب المغربي استضافت 35 % منها أي من المحاولات الهجومية مقابل حدوث 14 % من المناورات الهجومية المغربية في مناطق المنتخب الإسباني، وهذا يفيد بأن المنتخب الإسباني قاد المبادرات الهجومية وشكل ضغطا على خط دفاع المنتخب المغربي الذي حاول مجاراة المنافس ومبادلته بمحاولات هجومية كانت قليلة العددي وخطيرة المستوى.

نفهم مما سبق أن المنتخب المغربي تنازل على الكرة وتركها لمنافسه، وانتظره في مناطقه وقام بتضييق المساحات وسد المنافذ مع تحجيم الأداء الفردي للاعبين الإسبان المعروفين بالسرعة والمراوغات والمهارات الفنية العالية، وبقي ينتظر أي هفوة إسبانية يمكن أن تقوده للفوز.

كل هذا السيناريو اختصره أفضل لاعبي المنتخب الإسباني في المباراة بالتصريح الذي أدلى به عقب المباراة عندما قال: «بعيدا عن التقليل من الاحترام للمنافس، فإن منتخب المغرب لم يقدم أي شيء على الإطلاق فيما يتصل باللعب حيث لم يفعلوا أي شيء. فقط اكتفوا بالمرتدات، وشيدوا سدا دفاعيا منيعا في الخلف وحاولوا مفاجأتنا بالمرتدات».

لخص رودري كل شيء إلا أنه لم يتطرق إلى ما بعد ذلك ولم يخبرنا بأن ما فعله منتخب المغرب هو الفعل الصحيح الذي مكنه من تسيير المباراة

الركراكي والعصا السحرية

نسب كثير من المحللين والإعلاميين والجماهير وغيرهم ممن تابعوا اللقاء إنجاز التأهل للمدرب وليد الركراكي وبذلك أقرّوا أنه ساحر وأن لديه عصا سحرية، الشارع الرياضي الذي صفق للركراكي اعتبره ساحرا لأنه طور الفريق بشكل خيالي وقاده للإطاحة بمنتخب إسبانيا الذي يهابه ويخشاه العالم بأسره على الرغم من أنه لم يمض على قدومه على رأس الدفة الفنية للمنتخب إلا 60 يوما أو ما يقاربها، ولا يختلف عاقلان في أن هذه المدرة الوجيزة لا يمكن أن تكون كافية لأي مدرب من وضع بصمته الكاملة على أداء أي منتخب أو أي فريق.

هنا ومن باب الأمانة، وجب علينا استحضار الرجل الذي جهز هذا المنتخب الجميل والعتيد ولمدة 3 سنوات كاملة وتحديدا من أغسطس 2019 إلى أغسطس 2022 وهو البوسني وحيد خليلوفيتش قبل أن تتم الإطاحة به من الداخل والخارج للأسباب التي يعرفها الجميع ولعل أبرزها إبعاد نجم المنتخب وحبيب الجماهير حكيم زياش الذي دعاه الركراكي وجعل منه لاعبا أساسيا ملبيا بذلك رغبة الشعب المغربي ومانحا اللاعب حقه في تمثيل بلاده. ومع قناعتنا أن إقصاء المدرب البوسني عن المنتخب شأن مغربي خالص إلا أنه لا بد من الإشارة أيضا إلى أن هذا المدرب قد أعاد بناء المنتخب المغربي ووضعه على طريق الانتصارات وجعله في مقدمة المنتخبات الإفريقية ورفع من مستوى أدائه بشكل جلب له الاحترام عربيا وإفريقيا ودوليا قبل مجيء الركراكي.

كل هذه الحقائق نصدح بها بعيدا عن الدفاع عنه من باب الأمانة الإعلامية مع الإقرار بأن خليلوفيتش وقع في عدة أخطاء دفع ثمنها غاليا وهذا ما يحدث في كرة القدم ولكننا في الوقت نفسه نثمن كل ما قام به الركراكي في إعادة صياغة المنتخب المغربي بالصورة التي يريدها هو شخصيا وبالصورة التي يريدها رئيس الاتحاد صاحب القبضة القوية وبالصورة التي يريدها الإعلام المغربي وبالصورة التي يريدها المنتخب المغربي لنفسه وبالصورة التي تضعه على الساحة العالمية من الباب الكبير، ولا بأس في الختام القول إن الركراكي محظوظ وعلى درجة عالية من الكفاءة في الوقت نفسه خلافا لسلفه الراحل الكفؤ وغير المحظوظ وإن سألتم اللعب فاسألوه البخت وهنا ينتهي الكلام.

copy short url   نسخ
08/12/2022
10