يموج عالم اليوم كله بمراجعات كبرى معمقة وجريئة للكثير من الأفكار والممارسات والسلوكيات، التي تبين أن فيها نواقص وعللا. ولعل الأزمات المالية والاقتصادية، وانتشار مختلف الأوبئة محلياً وعالمياً، وصعود حركات وشخصيات شعبوية جاهلة نرجسية غير متزنة، وازدياد المخاطر والفواجع البيئية، ساهمت إلى حد كبير في ظهور تلك المراجعات على مستوى العالم كله.
هناك الآن مراجعات نقدية لكل منطلقات الحداثة، خصوصاً بالنسبة للنظام الليبرالي الديمقراطي في الحياة السياسية. هناك مراجعة للنظام النيوليبرالي الرأسمالي العولمي، خصوصاً تطبيقاته في عوالم المال والاقتصاد.
وبالطبع تشمل المراجعة كل ما تقترحه موجات ما بعد الحداثة من أفكار جديدة وسلوكيات مجنونة وقيم غير أخلاقية وأحلام فردانية ضارة بالتماسكات المجتمعية وسلامتها.
كل ذلك يطرح في الحال السؤال المفصلي الآتي: هل إن مؤسسات المجتمع المختلفة، وعلى الأخص مؤسسات التعليم العالي الجامعي، تعد الشباب والشابات، جيل المستقبل الغامض المليء بالمفاجآت، تعدهم للتعامل مع تلك المراجعات بفهم عقلاني متزن، وبقدرة تحليلية نقدية موضوعية، وبتمسك بالمرجعيات القيمية والأخلاقية كموازين ضابطة لكل تلك المراجعات؟
في اعتقادي أن الغالبية الساحقة من الجامعات، وعلى الأخص في الأرض التي تهمنا، الوطن العربي كله، منشغلة إلى حدود الهوس بتهيئة تلامذتها التعليمية والتدريبية المهنية لكي يكونوا صالحين للقيام بوظائفهم بكفاءة ومرونة متغيرة ومتناغمة مع ضرورات وإملاءات الأسواق ومؤسسات الإنتاج، بينما تهمل الجانب المتعلق بتهيئة طلبتها بثقافة جادة ومتنوعة ليتخرجوا كمثقفين قادرين، ليس فقط بالاندماج في عالم العمل بكفاءة، وإنما ليكونوا قادرين أيضاً، وبالكفاءة نفسها، على فهم ونقد المراجعات الكبرى.الشروق