+ A
A -

تترقب الجماهير الغفيرة حول العالم اليوم تنظيم دولة قطر لواحدة من أميز نسخ مونديال كأس العالم، والذي ستنطلق أعماله بعد سُويعات من الآن، وذلك بعد سنوات طويلة من التخطيط الاستراتيجي وتلاقح الأفكار وتنفيذها وتوزيع العمل على الفرق المختلفة.

وبالرغم من أنَّ الاستضافة الشرق أوسطيَّة العربيَّة الخليجيَّة الأولى لهذا العرس الكروي لم تمُر بترحيب وتأييد من تكتلات سياسيَّة متفرقة حول العالم (بعض مراكز القرار العالميَّة القديمة) ولأهداف يمكن السعي في تجليتها في أقرب الآجال؛ إلا أنَّ قطر تبنت وبشجاعة تحضير بُنيتها التحتيَّة وما يحيط بها من جاهزيَّة حضارية وأمميَّة وثقافيَّة متنوعة وثرية وذات أصالة خاصة.

قارئي الكريم، تأتي الأحداث الجماهيريَّة الكبيرة لتشكِّل فرصةً حضاريَّة واتصاليَّة؛ لبث عدد من الرسائل الاستراتيجيَّة (من مختلف قنوات الاتصال المباشرة وغير المباشرة) والتي يُهدف من خلالها تحقيق مكاسب بعينها، ولعل أبرزها تشكيل الصور الذهنية الحقيقيَّة وتصحيح الصور النمطيَّة السلبيَّة. وبالنظر إلى تاريخ البطولات العالمية التي استضافتها المنطقة العربيَّة بشكل عام والدولة بشكل خاص؛ فإنَّ مونديال قطر 2022 يشكِّل فرصة مثاليَّة قد لا تتكرَّر تسهم في إعادة تعريف المنطقة في ذهنيَّة الجماهير العالميَّة التي طالما تجرَّعت من وسائل الإعلام لصور نمطيَّة سلبيَّة ومحرضة عن المسلمين والعرب.

لقد أثبت علم نفس الجماهير أن سيكولوجيا الفرد تتعارض مع سيكولوجيا الحشد، وأن للجماعة شخصية كليَّة واحدة تختلف عن الشخصية الفردية، كما أثبت أن الفرد ما إن ينخرط في جمهور مُحدَّد حتى يكتسب سلوكيات خاصة به لم تكن لتوجد فيه لو بقي وحده، فهو يصبح أجرأ وأقوى، وأقدر على التعبير عما يجول في رأسه. وحريٌّ بي القول أنَّه بالنظر إلى سيكولوجيا الجماهير الكروية فإنَّهم يتباينون بين الانتماء والتعصب، ولا يمكن إنكار أن بعض هذه الانتماءات ترتبط بالعروبة والقومية والأممية وهي مجموعات تضم الجماهير إلى فئات أكبر وفقًا لسياقات متداخلة، وعليه، فإنَّ هذه البطولة، في نظري، أداة مميزة يُمكن من خلالها توحيد الجمهور أو محاولة تنظيم صفوفه في قضة واحدة مكثفة التأييد والانشغال والمناصرة، كونها مناسبة عالمية تنشط كل أربع سنوات لتعييد الفرصة للجماهير الغفيرة حول العالم كرَّة المحاولة لمناصرة منشَط يتفقون عليه جميعًا، في محاولة لكل فئة من فئات هذه الجماهير، الانتصار والتفوق على غيرها.

يدعونا مونديال كأس العالم لكرة القدم، كحدث جماهيري عالمي وكرسالة أممية ثقافية جامعة للشعوب والحضارات، رسالة طغت على كرة القدم (الرياضة المحبوبة عالميًا)، إلى أن نلتفت بصدق وإخلاص للاهتمام بتحقيق مكاسِب هذا الحدث العالمي على الحضارة الإنسانيَّة الجامعة، تأكيدًا على مبدأ العيش المشترك والسلام والتفاهم الذي يعمل على تحقيقه أفراد وشعوب وعرقيات جماهير كأس العالم المتوافدة من كل مكان، جبنًا إلى جنب مؤسسات الدولة ومثقفيها، كما أن هذه المناسبة ستعيد تموضع دولة قطر في خريطة العالم وتقديمها كحاضنة ومستقبلة للآخر الإنساني والثقافي، معززة ومحترمة لمبادئ الكرامة الإنسانية والتعددية الثقافية وحقوق الآخرين، في الوقت الذي تقدِّم فيه وبشكل حضاري، ثقافتها وبيئتها الحضارية ونسيجها الخاص بشكل محترم ولائق للجميع، صُنعًا وتعزيزًا لصورتنا الذهنية الصحيحة (أمة وحضارة) لدى الآخر وتصحيحًا لكافة الصور النمطية عنا وعن أمتنا في أذهان الشعوب (ما استطعنا لذلك سبيلًا) والتي أسهمت في تشكيلها كثير من العوامل المتداخلة والمتعاقبة.

إن الجماهير الكبيرة والمتنوعة التي تزور البلاد حاليًا ستبحث عن مكوناتنا الحضاريَّة في كل مكان، ليس فقط في الشواخص الفنيَّة المتعددة التي تم توزيعها ونصبُها في كل مكان، ليس فقط في الفعاليات والمهرجانات ذات السبغة العالمية التي ستنظم من الآن إلى نهاية هذا العام، بل ستبحث عن إرثنا الفكري والثقافي الحقيقي والأصيل، جنبًا إلى جنب الإرث المادي والذي ستوضح، جزءٌ منه، هذه المباني والفعاليات والمناشط المختلفة. علينا أن نوضح للآخر أننا حضارتنا تَتَفتَّحَ وتتعايَشَ مع الحَضارات العالميَّة الأُخرى وتكسِرَ جُمودَ التقوقُع والانغِلاق؛ آخذةً بمبدأِ الأخذِ والعَطاء، لا الأخذَ وحدَهُ، (التفاعُلَ والانفعَالَ معًا، الحاجَةَ والمُبادرةَ معًا). علينا أن نوضح أننا ننتقي ما تأخُذُهُ من الحضاراتِ العالميَّة الأُخرى بما يتناسَبُ مع أصالتِنا وقيمِنا (معرضين عن التبعيَّةِ والذوبَان- وقلًا وفعلًا).

قارئي الكريم، قد تكون هذه الأيام فرصة للجميع لإثبات أن بلدًا مسلمًا عربيًا استطاع أن يحتضن منشطًا عالميًا ثريًا، وقد يكون فرصة كذلك لإثبات أننا نجحنا في تنظيم حدث كان وراءه الكثير من المحاولات لإجهاضه وتصعير تنظيمه، إلا أن الموضوع، بنظري، يعد تحديًا لاختبار مدى قدرتنا الحضارية على احتضان الآخر ونقل إرثنا الخاص له وتحقيق مكاسب هذه اللحظة التاريخية الراهنة ما استطعنا سبيلًا، فالالتِماسُ الحضارِي بينَ الشرقِ والغَرب لا يتأتَّى بالتقليدِ والانبهار والاستنساخ، بل بالاهتداءِ الانتقائِي وتأسيسِ التعاوَنِ والتكامُل الراقِي والحَضاريّ.

خولة مرتضوي

إعلامية وباحثة أكاديمية في الحضارة والإعلام الجديد- جامعة قطر

copy short url   نسخ
20/11/2022
60