+ A
A -
في ختام مقالة الأسبوع الماضي كان التساؤل لماذا تتنافس الصين الآن مع أميركا على لقب الدولة صاحبة العملة الأولى في العالم؟ وهل هناك منافع تكتسبها الدولة من جراء ذلك؟ وحتى نجيب على هذه التساؤلات دعونا نعود للوراء ولقصة اختراع العملة (النقود) نفسها.. دعونا نشرح ماذا كان يحدث في عالم يتم التداول فيه عن طريق المقايضة.
المقايضة (وهو تبادل سلعة أو خدمة بسلعة أو خدمة أخرى) نتج عنها عدد هائل من الصعوبات التي جعلت من وجود النقود نتيجة ضرورية وحتمية. فمثلا لو نتخيل أن شخصاً ما يريد أن يحصل على عدد من «أرغفة الخبز» وليس لديه ما يمكن أن يبادله غير بعض حزمات من «الجرجير». فعلى هذا الشخص أن يفتش ويبحث وقد لا يجد من لديه الخبز وإذا وجده قد يكون صاحب الخبز ليس في حاجة إلى الجرجير. وإذا افترضنا أنه بعد تعب وعناء وجد من لديه الخبز وفي نفس الوقت يريد الجرجير فتبدأ رحلة التفاوض والمساومة على كم رغيف من الخبز يساوي حزمة الجرجير؟ وقد يجلسان طوال اليوم يتساومان دون الوصول لاتفاق. تخيل كم حجم المشكلة لو كان الذي يريد أرغفة الخبز ليس لديه ما يبادله غير بقرة حلوب أو حصان أشهب (أي سلعة غير قابلة للتجزئة).
هذه المشاكل أوجدت الحاجة إلى أن يتم التداول عن طريق سلعة وسيطة فابتدأ الناس في اختيار أي سلعة موجودة لاستخدامها كوسيط للتبادل. ولكن سرعان ما ظهر أن السلعة التي يمكن لها أن تلعب دور النقود بسهولة لابد وأن تتميز بخصائص معينه كالتجانس وسهولة التقسيم وعدم التآكل أو التقادم وأن تكون سهلة الحمل وممكن نقلها من مكان لآخر بسهولة وأهم من ذلك أن يكون عليها طلب وعرضها محدود حتى تكون لها قيمة. وتجمعت كل هذه الصفات في المعادن النفيسة وظهر الذهب والفضة كمثالين ممتازين للنقود. وكان في البداية يحمل التجار الموازين الحساسة ويقومون بوزن سبائك وصفائح الذهب أثناء التعامل إلى أن جمع الوالي كل الذهب في ولايته ليقوم بسكه ويضع عليه وزنه وخاتم الولاية. وهكذا ظهرت النقود بشكلها المعتاد إلى الوجود وكانت قيمتها «الحقيقية» هي نفسها قيمتها «الاسمية». واستمر هذا حتى بعد أن تغيرت النقود من الشكل المعدني إلى الشكل الورقي فظلت تحمل قيمتها الحقيقية. فابتداء من 1879 كان يكتب على الدولار أنه بإمكان حامله صرف قيمته من ذهب أو فضه من فروع البنك المركزي الأميركي (الاحتياطي الفيدرالي) الذي أصدره. ومن ثم كان دائماً لدى الاحتياطي الفيدرالي غطاء من الذهب يساوي بالكامل ما يتم إصداره من نقود. ولكن ابتداء من 1933 أصبح هذا الغطاء يتناقص من 100 % إلى 50 % إلى أقل من ذلك وكان يسمى ذلك «بغطاء الذهب الجزئي» إلى أن أتى عام 1971 حين أعلن الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون فك الارتباط بين الذهب والنقود وأصبحت العملة الأميركية يتم إصدارها دون أي غطاء ذهب كان أو فضة. ومن ثم أصبحت قيمتها الحقيقية لا تذكر بالمقارنة بالقيمة الاسمية. حيث تتكلف الحكومة الأميركية 8 سنتات فقط قيمة إصدار ورقة عملة بقيمة 100 دولار. إذن فإن العملة تستمد قيمتها الحقيقية الآن ليس من الذهب والفضة وإنما من مجرد قبول الناس لها.
وهكذا تتحصل الدولة التي يتم قبول وتداول عملتها عالميا على مزايا فريدة وحصيلة وفيرة من الأرباح والتي تتمثل في الفارق بين قيمة العملة الاسمية (أي ما هو مكتوب عليها) وتكلفة طباعتها. ففي حقيقة الأمر وبشيء من التبسيط غير المخل فإن أميركا تستورد عددا هائلا من السلع اليابانية مثلا كسيارات الهوندا والليكسس والتويوتا والأجهزة الطبية وقطع غيار الطائرات وتدفع لها في المقابل عددا هائلا من الأوراق التي طبعتها من فئة المائة دولار والتي كلفتها ثمانية سنتات فقط لكل ورقة. لنا إذن أن نتخيل الربح الهائل الذي تحصل عليه أميركا من قبول وتداول عملتها في الخارج ولا نستغرب أيضا ان تحاول الصين ان تحصل على جزء من هذه الكعكة.

بقلم : حسن يوسف علي
copy short url   نسخ
26/10/2016
2892