+ A
A -
طبعا رغم كل البطولات والتضحيات والمعاناة، في كل تلك المسيرة الكفاحية المضنية، إلا أن الفلسطينيين لم يستطيعوا أن يهزموا إسرائيل، ولا حتى على مستوى الانسحاب من الأراضي المحتلة (1967)، بسبب تفوقها عليهم من كل النواحي، سيما بسبب تميّز إدارتها وتأهيلها لمجتمعها ولمواردها البشرية، أي ليس بسبب تفوقها العسكري فقط، وتأتي في إطار ذلك، طبعاً المعطيات العربية والدولية المواتية لها، والتي تحد من قدرة الفلسطينيين، أو لا تسمح لهم باستثمار بطولاتهم وتضحياتهم.
على ذلك فإن مشكلة الفلسطينيين لا تكمن في ضعف إمكانياتهم فحسب، أو عدم دعم النظامين العربي والدولي لكفاحهم فقط، إذ هي تكمن أيضاً في تخلّف إدارتهم لصراعهم ضد إسرائيل، كما في تخلّف إدارتهم لمجتمعهم ولمواردهم البشرية والمادية، ونمط علاقاتهم البينية، والمعايير التي تأسّست عليها حركتهم الوطنية.
أما ما يخصّ موضوع المقاومة تحديداً فإن مشكلة الفلسطينيين تكمن في اختزالهم إياها في المقاومة المسلحة، ما يعني حصرها في جماعات محترفة، الأمر الذي يستبعد معظم الشعب من دائرة مقاومة المستعمر وتضييع طاقته. هذا أولاً، ثانياً: لم يميز الفلسطينيون بين المقاومة المسلحة والحرب، ولا بين هذين وردود الفعل على اعتداءات إسرائيل. ثالثاً: لم يتعامل الفلسطينيون مع المقاومة باعتبارها عملاً سياسياً يقوم به بشر قد يخطئون أو يصيبون، أو على أنها عمل يخضع لحسابات الجدوى والكلفة والمردود، إذ أضفوا عليها نوعاً من القداسة، ما يتناقض مع السياسة. وبديهي أن ذلك أفضى إلى تسيّد مظاهر الهيمنة والسلطة في علاقة الفصائل مع المجتمع، لا سيما بحكم عدم خضوع القيادات للمساءلة والمحاسبة، وافتقاد الفصائل للحراكات الداخلية ولتقاليد العمل الديمقراطي.
بالنتيجة فإن الفلسطينيين لم يسألوا، طوال نصف قرن من تجربتهم الوطنية، أين كنا وأين أصبحنا؟ ولا لماذا حصل ما حصل؟ ولم تتم مراجعة تجربة المقاومة المسلحة في الأردن، ولا في لبنان، ولا في الانتفاضة الثانية، كما لم يسأل أحد كيف تحولت المقاومة إلى نوع من سلطة في الأماكن التي صعدت فيها، في الأردن ولبنان ثم في الضفة وغزة، إلى الحد الذي أدى إلى هذا التناقض بين مفهوم الحرية والتحرير.
والحال هكذا، فإن الجدال هنا لا يدور حول مشروعية المقاومة بمختلف أشكالها، ضد الاستعمار والهيمنة والعنصرية الإسرائيلية، وإنما حول الأشكال الأجدى للمقاومة في كل مرحلة، باعتبار ذلك من أبجديات العمل السياسي، ومن صلب عملية المراجعة والتقييم المطلوبة لإدارة الصراع ضد إسرائيل، بالشكل الأفضل والأقوم، لا سيما بعد تجربة معقدة ومضنية ومكلفة مدتها نصف قرن.
ولعل المسألة الأساسية التي ينبغي إدراكها هنا أن كل الفصائل الفلسطينية لا تستطيع شنّ حرب ضد إسرائيل، لا من الضفة ولا من غزة، ولا من الخارج، فهي منظمات مقاومة، أما الحرب فلها وسائلها وأدواتها وظروفها، وهي ليست في متناول الفلسطينيين تحت الاحتلال، أو في ظل هذا النظام أو ذاك، وحتى إنها لم تعد في مقدور النظام العربي السائد. بيد أن ذلك لا يعني أن الفلسطينيين لا يستطيعون شيئاً، وإنما يعني أن باستطاعتهم المقاومة حصراً، ويعني أنهم، في ظل إدارة أفضل لأحوالهم ولطاقاتهم، يستطيعون أن يرفعوا ثمن الاحتلال، وأن يزعزعوا استقرار إسرائيل، وأن ينزعوا عنها شرعيتها، في إطار سعيهم لهزيمتها بالمعنى التاريخي، بانتظار التطورات الدولية والعربية والمحلية التي تقوض معناها، كدولة صهيونية، استعمارية واستيطانية وعنصرية ودينية في الشرق الأوسط.
هكذا، ربما بات من المفيد أن يعزّز الفلسطينيون إدراكاتهم للكفاح المسلح باعتباره، مع مشروعيته، ليس عملاً مزاجياً، ولا وسيلة للمزايدة أو التوظيف الخارجي، وأن الأساس هو مقاومة الشعب، بطريقة كفاحية وتدرجية، تستنزف العدو، أكثر مما تستنزف الفلسطينيين.
المعنى من كل ذلك أن الفلسطينيين معنيون بالاعتماد على إمكانياتهم الذاتية، والاقتصاد في تصريف طاقتهم في صراعهم الطويل والمضني والمعقد ضد إسرائيل، لا سيما أنهم أثبتوا أن الصمود في الأرض، والمقاومة الشعبية، والانتفاضة، والحث على مقاطعة إسرائيل ونزع الشرعية عنها، باعتبارها دولة استعمارية وعنصرية ودينية، هو الشكل الأكثر جدوى بين الأشكال الأخرى، إلى حين توافر معطيات جديدة، ولا شك أن هذا يتطلب أيضاً، تركيز الفلسطينيين على استنهاض أحوالهم كشعب، وبناء مؤسساتهم والحفاظ على هويتهم الوطنية وتطوير كيانيتهم السياسية، باعتبار أن ذلك جزء من العملية الصراعية ضد إسرائيل لا ينبغي إهماله أو الاستهانة به.
قصارى القول يجب نزع القداسة عن الكفاح المسلح، وإخضاعه للمساءلة، ولاستراتيجية واضحة، ولحسابات الجدوى، فما يصحّ في ظروف معينة قد يضرّ في ظروف أخرى، المهم هو اجتراح أشكال الكفاح الممكنة والمواتية، والقدرة على استثمارها سياسياً، بما يخدم تطور الحالة الكفاحية الفلسطينية، وتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني.منذ قرن والفلسطينيون يصارعون ضد المشروع الصهيوني في أشكال كفاحية متنوعة، وبمستويات متعددة، مع انتفاضات وعصيان مدني وكفاح مسلح، ويأتي ضمن ذلك ثورة 1936، التي شملت أطول إضراب عرفه التاريخ (ستة أشهر)، وتجربة الكفاح المسلح من الخارج (1965ـ1982)، ثم الانتفاضة الشعبية الأولى (1987ـ1993) في الداخل، وبعدها الانتفاضة الثانية (2000ـ 2004)، التي غلب عليها البعد العسكري، والحروب المتوالية ضد قطاع غزة، إلا أن الفلسطينيين مع كل ذلك، لم يتوصلوا إلى توافق فيما بينهم حول معنى المقاومة، أو حول الشكل الكفاحي الأنجع والأنسب لظروفهم وإمكانياتهم، على رغم تمرّسهم بالسياسة، وغنى تجربتهم، والتضحيات والمعاناة والبطولات التي بذلوها.بقلم ماجد كيالي
عربي بوست
copy short url   نسخ
09/10/2021
554