+ A
A -
قالوا قديماً: من كان الكتاب شيخه فقد ضلّ! وقد قالوها لأنهم كانوا يرون أنّ العلمَ لا يكون إلا بالتّلقي وثني الرُّكب في مجالس العلماء! وإذا ما كان من اتخذَ الكتاب شيخًا فقد ضلّ عندهم فما عساهم يقولون لو رأوا شيخنا غوغل يُستفتى في كلّ كبيرة وصغيرة!
والشيءُ بالشيء يُذكر، بمجرد أن تضع عنوان المقال في محرك البحث «غوغل» وتقول له: «نبئنا بتأويله إنّا نراك من المحسنين»، حتى تجد كماً هائلاً من الأقوال التي تحاول شرح وتفسير وفلسفة وتبرير هذه العاطفة، ولا شك بأنك ستجد الكثير من التناقض بين تلك الأقوال.. وهذا طبيعي جداً، فالتباين في مدرّج الآراء والأفكار يعني أن ثمة عقولا تعمل!
يتحدث الناس في الغالب من تجاربهم الخاصة، ولكن في الحب يتحدث الناس عنه حين لا يملكون فيه تجارب خاصة، ببساطة لأنه حين يجد الإنسان حباً فإنه يخلق بداخله رغبة العيش أكثر من رغبة الكلام.
فدستيوفسكي مثلاً يرى أن «الحب لا يمكنه أن يكون سوى إعطاء المحبوب للمحب الحق في ممارسة الاستبداد عليه بشكل طوعي».. وهذا التصوير قد يكون فيه من الحقيقة الكثير، فالحب بشكل ما يستعبد القلوب، ذلك الاستعباد الذي يستلذ به صاحبه ويجد معه أن الحرية هي نوع من الموت، لأن نزع الحبيب بالنسبة للعاشق لا يقل ألماً عن نزع الروح، وهذا ما يمنح السلطة للأحبة على بعضهم.
أما ليو تولستوي فيرى أن «الإنسان الذي يقدر على الحب يقدر على كل شيء».. فالحب في رأيه بحاجة إلى قوة وشجاعة، إذ لا يمكن لأي قلب أن يضم حباً وضعفاً في نفس الوقت.. وربما كان ذلك العمى الذي يتصف به الحب هو العمى عن كل شيء يعيق تلك العاطفة، أو الجنون المطلق الذي يجعل رؤية شيء آخر عدا المحبوب أمراً غير قابل الحدوث.
بالنسبة لتشيزاري بافيزي فإنه يرى أنك «ستحيا الحب حقًا يوم تكون قادرًا على أن تثبت ضعفك، دون أن يستغله الطرف الآخر ليؤكد قوته».. وهو يلخص هنا علاقة الحب المتكافئة، لا الحب بصفته شعوراً محضاً، فلا يكتمل الحب دون أن تكشف قلبك وروحك لمن تحب بيقين تام أنك مقبول بكل حالاتك، وثقة كاملة أنك محبوب بسيئاتك وحسناتك، فأنت في قلب من تحب كما أنت في بيتك، مفاتحه بيدك، لا تخشى أن تُطرد لسوء تصرفك، ولا أن تقفل الأبواب في وجهك.
ويقول أبوعبدالله القرشي في هذا: «حقيقة المحبة أن تهب كلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منك شيء». وقال الشبلي: «سميت المحبة محبة؛ لأنها تمحو من القلب ما سوى المحبوب».. فالقلوب كالمدن، حين يفتحها أحدهم لا يعود لغيره حكم عليها، وكأن كل حب هو ولادة جديدة، تمحو ما سبقها من حياة، وهنا يجتمع الإيثار والأنانية في ذات الشعور، أن تمنح نفسك بالكامل دون أن تدّخر منك شيئاً، وتستأثر بالآخر تماماً دون أن تسمح أن يقاسمك فيه أحد، وكأن من معاني الحب تبادل القلوب والأرواح.
والأقوال في هذا كثيرة، والقائلون كثر ستجد منهم من يصف لك الحب كمن يصف الجنة، ومن يصفه لك كمن يصف الجحيم، رغم أن المتحدث في الغالب لم يغادر الأعراف! وستجد من يقنعك أن الحب مجرد عملية فيزيائية بحتة، ومن يؤكد لك أن الحب مرتبط بالكيمياء، من يخبرك أن الحب حيلة الرجال للاستحواذ على أجساد النساء، ووسيلة النساء لإدخال الرجال قفص الزوجية، من يمنطق لك هذا الشعور، ومن يشرّحه بمشرط الفلسفة.
ولا أحد منهم مصيب ولا أحد مخطئ، فالحب كالحياة، لا يُعاش بطريقة واحدة، ولكل إنسان طريقته في الحب، وفي التعبير عن الحب، وفي فهم الحب، وفي التعامل مع شعوره ذاك دون أن يشبه غيره من الناس، فلا يمكن أن نقول إن كل العشاق سيفنون حياتهم يتبعون صوت قلوبهم كمجنون ليلى، ولا كل العاشقات قد يفارقن الحياة بقبلة الموت كجولييت. فالعشاق القدامى كانوا أكثر رفاهية منا، إذ يمكنهم الهروب من حرقة القلب بشهقة يفارقون بعدها مرّ الحياة، أو يتخلصون من صراع العقل والقلب بالتخلي عن أحدهما، وقد تجد في قصص المحبين من هم أكثر جنوناً من قيس، لكنهم يكممون قلوبهم كي لا تفضحهم، ليس لأنهم أكثر تعقلاً، بل لأن هذه الأرض لم تعد فسيحة كالسابق ليهيم فيها العشاق، فقد ضاقت الأرض حتى بالحياة.

بقلم : أدهم شرقاوي
copy short url   نسخ
24/09/2016
5522