+ A
A -

في طفولتي، كانت ترتاد بيتنا سيدة غريبة مُلغمة بالحلي الذهبية وتحمل حقيبة يد كبيرة وكانت تُستقبل استقبال الضيوف.

كان شعرها معقوصًا بجدية لكنها لم تكن تخلو من أنوثة رثة، كما استوقفني أنها ما ان تُفرط في ضحكتها المصطنعة حتى يتحبب ذقنها ويحمر بشكل يُزعجني، تجلس فتسألني عن دراستي مفتعلة الاهتمام أمام والدتي، أما لو التفتت الأم لتحضير الضيافة فكانت تتجاهلني كليًا لتعبث بحقيبتها، ثم لا تلبث أن تعاود الاهتمام بمجرد عودة أمي.

لم أكن أرى جميلًا في بضاعتها، لكن كانت والدتي تشتري منها بعد فصال ناعم ثم يبتسمان فتودعها كما تودع بنات العمومة.

ظلت هذه السيدة الفاضلة تزور وتعود بنفس البسمات الزائفة والبضاعة الكاسدة.

عمر قُضِىَ لأفهم أنها كانت تتسلح بالذهب لتُثبت لنا أنها ليست بحاجة لصدقة بل لعمل.

استمرت «تاجرة الشنطة» في زياراتها، ثم انقطعت، ولا أذكر أنه دار بينها وبين أهلي يومًا أي حديث إنساني صادق، فقد كانت صورة مبتدأة من صور مندوبي المبيعات على أنها مقر شركتها الخاصة كان تلك الحقيبة.

اللافت أن هذه السيدة لم تُذكر يومًا في عائلتنا، لقد بُليت تمامًا من وجدان الأسرة، ما من أحد يتذكر اسمها، ولم تأت سيرتها من بعيد أوقريب.

مضت سنوات، ثم شرعت تزورنا بالدار خياطة مُسِنة تُدعى أم محمود، كانت تتميز بسلوك مفرط في الرقي وكانت حريصة على استخدام كستبان فضي عتيق.

لم تعجبني خياطتها ولم تكن مدعية تميز، لكنها كانت تزاول العمل لإعالة أحفادها بعيد وفاة زوجها وابنها.

كنت ما ان أعود من الجامعة، ويخبروني أن أم محمود بالدار، فكأن زرًا قد ضغط على قابس السعادة بنفسي، أدلف للبحث عنها بغرف البيت والقي بنفسي في أحضانها كأن على صدرها وطن يحتويني. كانت بسماتها تومض طمأنينة.

لا أذكر أنها فاصلت مع والدتي يومًا، بل لم تكن تُثمن أجرتها بل تتركها تقديرية لوالدتي ولا تنظُر- ولا بخائنة أعين- في المبلغ، بل تضعه في جيبها وتشكر راضية، لا، بل فرحة.

كانت لا تَمَلّ الحكي، وكنت لا أملّ الإنصات، ولن أنسى روايتها عن زوجها.

قالت ما معناه: أحببته وأحبني ونحن أحياء، تراحمنا في الدنيا قبل فوات الحياة، فلم تقتصر محبتنا على التقدير عقِب الرحيل. لقد أشبعني معاملة حسنة، بل كان يُدللني بدرجة تثير أحقاد محيطنا، على أنه لم يكن يعبأ بأحد، بل يقول: لم أتزوجك عُرفيًا لأحبك في السر فيما أدعي التجبر عليك في العلن لأثبت عنترية تًرضي الناس وتًغضب ربي بدعوى إتقاء عين أو إخماد غل الحاقدين.

وصفت لي تفاصيل عنايته ُبها، إذ كان يهتم بزينتها والأهم انه لم يشرط تقديره بتحملها له، ومن ثم لم يضطرها لتمثيل دور الآتان التي يكافئها العربجي بقطعة سكر كلما حملت أثقالاً، لقد كان فارسًا لا عربجيًا.

ذهبا يومًا للسينما، فأخبروهما أنها محجوزة بالكامل للملك والملكة.

وفي عيد ميلادها اصطحبها للسينما ذاتها وباغتها وقد حجز لها القاعة كاملة كما يحجز الملوك لمليكاتهم بعد أن ادخر الثمن لعام كامل.

قالت: يومها، لم أهتم بمشاهدة الفيلم بل رحت أفكر فيما لو كنت تزوجت ملكًا معروفًأ، فكيف كنت سأواجه نفسي وأنا أحمل لقب ملكة لكن أُعامل كجارية، وما جدوى أن أكون ملكة اسمًا أمام الناس بينما أنا سيدة مهانة في الحقيقة. لقد وهبت زوجًا جعلني ملكة أمام نفسي وأمام محيطي، حتى لو لم أحز اللقب.

صحيح لم أتقلد تاجًا، لكنه ترك لي كستبانه الفضي وهو بمثابة درع يصد عني خطوب الحياة بل هو ممحاة للألم.

لما غابت عن زيارتنا أم محمود، سألنا عنها وعلمنا أنه قد خطفها منا الرحيل، لكن هيهات أن يتخطف الموت من ذاكرتنا من علمتنا أن نمارس الحب قبل فوات الحياة.

لقد خَطّت صاحبة الكستبان الفضي بتوقيع خالد على خريطة ذاكرتنا.

copy short url   نسخ
22/10/2022
35