+ A
A -
بقلم - الدكتور تيسير الردّاوي(1)
الشروط المسبقة للديمقراطية
تشير التجربة التاريخية إلى استحالة تحقيق الديمقراطية في البلدان الفقيرة الناشئة قبل توفر شروط مسبقة، العراق اليوم وليبيا وميانمار حالات واضحة، لأن أوضاع هذه البلدان الاقتصادية والاجتماعية، لا تسمح باستكمال الديمقراطية، سواء كان الفقر أو الجهل أو البطالة، كما أن ضخامة جيوشها وقوتها تعرقل الديمقراطية، فالمتربصون بها، سواء من العسكريين الطامحين أو السياسيين الانتهازيين، يستغلون حاجات الفقراء المتفاقمة للقفز على السلطة.
لا أحد يستطيع أن ينكر العلاقة بين التنمية والديمقراطية، أو بين الوضع الاقتصادي المعيشي كالتعليم والصحة والمستوى الثقافي والديمقراطية، لايمكن للديمقراطية أن تنجح دون مستـــــوى اقتصادي واجتمـــــاعي وثقافي مناسب، يمكن المواطنين من التمــــييز والاختيار والمشاركة.
وبالمقابل ليس هناك علاقة جدلية بين تراكم الثروة الاقتصادية الاجتماعية وإمكانية التحول إلى /‏ أو نجاح نظام ديمقراطي، وخير الأمثلة على ذلك تجارب الصين وتايوان وكوريا وسنغافورة وماليزيا، ولكن الثابت أن هناك اتجاهين: الأول يعتقد أنه من المستحيل السير باتجاه التنمية دون الديمقراطية ويستدلون على ذلك من فشل تجارب التنمية في البلدان النامية الإفريقية والآسيوية والأميركية اللاتينية، والثاني يعتقد أنه لا يمكن كذلك تحقيق الديمقراطيــــة في هذه البلدان قبل أن تبلغ مستوى اقتصادي واجتماعي وثقافي مقبول، وأن هذه البلدان تحتاج للنظام من أجل التنمية والديمقراطية. ما الحل إذن ؟.
الجواب في التجربة التاريخية للبلدان الفقيرة، التي استطاعت السير باتجاه التنمية بمساعدة هامش بسيط من الديمقراطية، أو بمساعدة ديمقراطية منضبطة، ويبدو هذا الخيار هو الخيار السليم الممكن.
(2)
العلاقة بين الديمقراطية والتنمية
ما سبق يبين أن كلا الرأيين له ما يبرره، فالتنمية تحتاج إلى فضاء سياسي من الحرية لكي تنمو وتعود ثمارها على جميع المواطنين، والديمقراطية لا يمكن أن تقوم وتتطور إلا في ظروف اقتصادية واجتماعية وثقافية مناسبة، مما يطرح خلاصة جوهرية هي: ألا يمكن أن نكتفي بديمقراطية محدودة منضبطة لكي نسير في طريق التنمية ومن ثم تتطور هذه الديمقراطية مع تقدم التنمية وتحـــسن مستوى المعيشة والمســـتوى الاجتماعي والثقافي، أي بعد توفر الشروط اللازمة للديمقراطية.
ما يمكن تعلمه من البلدان الفقيرة التي تمكنت بقيادة نخبة تكنوقراطية من تحقيق نمو اقتصادي رفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، ووفر التعليم والصحة والعمل للجميع، ووزع الدخل بين الناس دون استغلال أو تمييز، ما يمكن تعلمه من هذه البلدان هو أنها تمكنت بديمقراطية بسيطة من النمو، حتى أصبحت مع النجاحات التنموية تتمتع بديمقراطية مقبولة ومرغوبة من كافة الطبقات، بل وأصبحت ديمقراطية مكتملة ليس على النموذج الغربي ولكن على النموذج الوطني ووفق احتياجات وتطلعات كل بلد.
(3)
سنغافورة وماليزيا – هامش ديمقراطي
تجربتان تؤيدان ما ذهبنا إليه على وجه الخصوص، وهو ديمقراطيات منضبطة في بلدان فقيرة ناشئة أشرفت عليها طبقة تكنوقراطية (وليس عسكرية) قادت إلى تنمية وإلى ديمقراطيات مكتملة، الأولى هي تجربة سنغافورة والثانية هي تجربة ماليزيا.
أما تجربة سنغافورة التي بدأت بعد انفصالها عن ماليزيا عام «1963»، حين كانت جزيرة فقيرة يعيش سكانها في المستنقعات مع البعوض، ولا يتجاوز دخل الفرد فيها «400» دولار أميركي سنويا.
كان الشعب السنغافوري شعب خليط متنوع الأعراق والأديان والثقافات، ويتكون من طبقة مالاوية تأتي اجتماعيا وماديا بعد الطبقة الصينية والهندية، وكانت الحياة الديمقراطية متواضعة حيث كان يحكم سنغافورة حزب واحد وفق قوانين محافظة يعتبرها السكان جزءا من النظام ولا يستطيعون الخروج عنها، فكان الإعلام موجها وكانت الصحافة الوطنية والأجنبية مقيدة، ولكن دون وجود أي مظهر من مظاهر العنف والأمن والسلطة البوليسية. كانت تتميز بوجود قيادة على رأسها رجل تكنوقراطي واحد يستأثر بسلطات واسعة ويمارس إدارة مركزية قوية، فيتخذ قرارات اقتصادية مصيرية دون أن يسمح لأحد من التدخل في تفاصيلها أو يسمح لمنازعات ومناكفات برلمانية من إعاقتها. كان هـــذا القائد هو لي كوان يو الذي ينحدر من عائلة صينية ولكن أحدا لم يعترض عليه من المكونين الآخرين المــــالاوي والهندي، ولم يتهمه أحد بأنه برجوازي دخيل، ولم يكـــــن أحد يعترض عليه حين كان يتجاوز القواعد الديمقـــراطية من أجل التنمية، بل بالعكس كانت هذه الديمقراطية البرلمانية الفتية تقف خلفه وهو ينجز ويضـــع الخطط والبدائل ويرتب الأولويات. آمـــــــنت هذه الديمقراطية البرلمانية الفتية بأفكاره حول أولوية وأهمــــية التعليم، وأحقية الأكفأ في أن يتبوأ الصدارة دون محاصصة أو تمييز على أساس العرق أو الدين أو الجــــــنس. وأيدته وهو يعطي قيمة كبيرة للكـــــــفاءات القادرة على تحقيق إنجازات تنموية هامة. الغريب أنه على الرغم من هـــــذه السلطات التي منحت له ولقب إثرها بالدكتاتور الرشيد ظل ممثلوا الشعب متمسكين بقيادته لأكثر من «25» سنة.
من ناحية أخرى فإن هذا النظام الذي يمكن وصفه بـ«التسلطي الناعم»، والذي تنخفض فيه مستويات المعارضة والتعبير، لم يضطهد أو يعتقل أو يعاقب أحدا على رأي سياسي أو مطلب اجتماعي، بل أخذ كافة المواطنين حقوقهم السياسية والاجتماعية المتساوية، مستفيدين من أسرع وأعظم تنمية فــــــي تاريــــــخ البلدان الفقيرة. لقد تحسن مستوى معيشة الموطنــــيين السنغافوريين سريعا، وبقفزات متتالية، حتى أصــــبح متوسط دخل الفرد الحقيقي حاليا يتجاوز«18000» دولار أميركي، وهومن أعلى المعدلات في آسيا، وأصبح هناك طبيب لكل«837» فــــــردا، وســـرير لكل «269» فردا أيضا، وأصبح معدل البـــــطالة أقـــــل من «2 %»، وأصبح يعمل في الصناعة أكثر من«28 %» من مجــــموع قـــــوة العمل، كما يعتبر نظام التعليم من أفضل الأنظــــمة العـــالمية ويتــــفوق على أنظمة التعلـــيم في الولايــــات المتحدة وأوروبا.
أما عن تجربة ماليزيا التي كانت مشابهة إلى حد كبير لتجربة سنغافورة من حيث تبنيها لديمقراطية منضبطة وقيادة تكنوقراطية وطموح كبير في تحقيق تنمية سريعة. كانت دولة فقيرة لا يتجاوز نصيب الفرد فيها عام «1967» الـ«1200» دولار أميركي، وكان شعبها أيضا خليط من الأعراق والأديان والثقافات، كان منهم المالاويين والهنود والصينيين. أما سياسيا فكانت تحكم في البداية من حزب واحد هو «حزب اتحاد الملايو الوطني» الذي تطور مع الزمن ليصبح «منظمة المالايو القومية المتحدة»، وكانت هذه المنظمة تحكم البلاد بسلطة مركزية قوية، مع هامش ديمقراطي يبسيط أو ما سميناه بـ«الديمقراطية المنضبطة»، حتى أن هذه المنظمة، مثلا، منعت مؤلفا لمهاتير محمد عام «1970» لأنه انتقد شعب المالايو وإتهمه بالكسل والرضى بأن تظل بلاده دولة زراعية متخلفة، وعلى أثر ذلك الكتاب فصل مهاتير من المنظمة، لأنه في نظر البعض، انتقد مكونا وطنيا هاما وهدد الوحدة الوطنية، وأصبح مهاتير محمد بعد هذا الكتاب موضع النقد والتشهير وأصبحت أفكاره موضع الإعتراض. ولكن الطبيب مهاتير محمد المولود عام «1925» من أسرة هندية تابع التمسك بأفكاره والإصرار على بثها بين الشباب داخل المنظمة وخارجها، مستغلا الهامش الديمقراطي المتاح، الذي مكنه من خوض الإنتخابات أكثر من مرة حتى استطاع أخيرا من الفوز والتاثير في المنظمة وقيادة ماليزيا كرئيس للوزراء من عام «1981» وحتى عام «2003» دون انقطاع، ولتكون فترة حكمه أطول فترة حكم في آسيا. تحولت ماليزيا بفضل قيادته من دولة زراعية تعتمد على إنتاج وتصدير المواد الأولية إلى دولة يساهم القطاع الصناعي بـ«90%» من ناتجها المحلي الإجمالي، هذا الناتج الذي بلغ معدل نموه أكثر من «8%» بين عامي «1988» و«1996».
(4)
الخلاصة من هاتين التجربتين
تشير التجربتان، السنغافورية والماليزية، إلى أهمية وجود هامش من الديمقراطية تشرف عليه سلطة تكنوقراطية قوية تسمح للشعب المشاركة في عملية التنمية، وهذا يمكن توفيره، في حين أن توفير ديمقراطية مكتملة في بلدان فقيرة متعددة الأعراق والأديان والمذاهب أمر مستحيل، لأن الديمقراطية المكتملة على النموذج الغربي تحتاج إلى شعب يتمتع بمستوى اقتصادي واجتماعي مناسب، يسمح له بممارسة حقوقه وواجباته الديمقراطية.
يطرح في هذه الخاتمة سؤال مفاده: ماذا لو كان قائدا هاتين التجربتين عسكريين قدما من الأمن أو الجيش؟، أو ماذا كان يمكن أن يحدث لو كان الجيش في هاتين التجربتين من القوة بحيث لا يمكن التحكم به؟، وكيف سوف يضيق الهامش الديمقراطي باسم ضرورات التنمية، وكيف يمكن للنظام تحمل نقد المعارضين والسياسيين، وكيف ستكون العلاقة مع الجيش الذي لا يقبل إلا بالحكم المطلق، ولا يقبل بالمشاركة إلا مع مجموعة من الأتباع والمؤيدين الذين يقدمون الولاء مقابل المنافع والعطايا، وبالتالي الفساد الذي يعطل التنمية ويذهب الإنفاق على الأمن والسلطة بدلا من الاستثمار والإعمار، وتتعطل الديمقراطية بفعل اتهام الجيش لها بالتزوير.
تفـــــشل السلطة الإستبدادية في تحقيق التنمية، وبالتالي تفــــشل في تحسين مستوى حياة الناس المادية والاجتماعية، وتصبح الديمقراطية حلما بعيد المنال.
copy short url   نسخ
04/02/2021
248