+ A
A -

اقتحم الذكاء الاصطناعي معظم جوانب حياتنا كالطب والهندسة وعلوم الفضاء وغيرها، وبما أن الصحافة خصوصا والإعلام عموما من أكثر المجالات سبقا إلى إدخال التقنيات والابتكارات الحديثة في مجال عملها، فقد أولت الذكاء الاصطناعي أهمية كبرى، فأحدث فيها ثورة غير مسبوقة، وأصبحت الكتابة وتحرير الأخبار والتوزيع الآلي دون إشراف أو تدخل بشري حقيقة واقعة بالفعل، الملايين من المقالات والقصص الإخبارية التي يلتهمها القراء كل صباح في الجرائد والمجلات أو كل حين على شبكة الإنترنت أنشأتها روبوتات، وثلاثون في المائة من المادة الإعلامية التي تقدمها شبكة بلومبيرج تصيغها الروبوتات، ولا يستطيع القراء التمييز بين ما كتبه الصحفيون الافتراضيون وما كتبه الصحفيون الحقيقيون.

وأبعد من ذلك أطلقت كوريا الجنوبية أول مذيعة أخبار افتراضية على قناة «إم بي إن» تعمل بتقنية الذكاء الاصطناعي لتشارك المذيعة الحقيقية كيم جو ها تقديم نشرة الأخبار وتبادلها الحديث، وظهرت المذيعتان كما لو أنهما توأم متماثل، فلم يقتصر التشابه بينهما على طبقات الصوت ومخارج الحروف فقط، بل تعداه إلى لغة الجسد والإيماءات والحركات، ومع أن المشاهدين كانوا يعرفون مسبقا أن إحداهما افتراضية لكنهم عجزوا عن التمييز وتحديد من هي، حتى نهاية النشرة حين قالت المذيعة الافتراضية أنا كيم جو ها الافتراضية، وأشكر زميلتي كيم جو ها الحقيقية على مشاركتي في تقديم النشرة، تكرر الشيء نفسه من وكالة الأنباء الصينية شينخوا حيث تلقى المشاهدون الصينيون التحية من المذيع المعروف شيو هاو وفوجئوا به في نهاية النشرة يقول: أنا شيو هاو الافتراضي سأقدم لكم نشرات الأخبار دائما، ويمكن استنساخ نسخ مني بأعداد لا متناهية، كان الشبه بينهما مطابقا تماما لدرجة أن المذيع الحقيقي قال: أخشى أن يذهب شيو هاو الافتراضي إلى بيتي دون أن تميزه زوجتي وأبنائي.

إلى هذا الحد أوصلتنا تقنيات الذكاء الاصطناعي عبر ابتكار أدوات لتوليد اللغة وعلوم السرد، ما على الإنسان إلا تزويدها بالرسوم البيانية وجداول البيانات والفيديوهات، لتتولى تحليلها واستخراج مادة تشكل أساسًا للسرد الصحفي تصلح خبرا.

وتعد أدوات توليد اللغة حجر الزاوية لتطوير العديد من المؤسسات الإعلامية أدوات خاصة بها، فمثلا بي بي سي لديها Juicer، وواشنطن بوست لديها Heliograf، ونيويورك تايمز لديها أداة Editor والجارديان لديها chatbot، وبلومبرج لديها نظام يسمى Cyborg، والقائمة طويلة.

أما كيف يتم تصنيع روبوتات وأدوات الذكاء الاصطناعي أو الإعلاميون الافتراضيون بمعنى أصح، فهذا السؤال يعنى بالجواب عنه خبراء وأساتذة علوم الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي، لأنه يتعلق بصناعة البرمجيات الهائلة، لكن ما يشغل أساتذة وخبراء استشراف مستقبل الصحافة أمور أخرى عما يجب أن يتعلمه الصحفيون للمستقبل؟ وهل من المحتمل أن يؤدي هذا الواقع الجديد إلى تحسين ظروف العمل في الصناعة؟ ماذا تكسب الشركات الإعلامية وتخسر؟.

وللحديث حول هذه التساؤلات، قال خبراء الصحافة: أول ما يجب على الصحفيين الشباب فعله اليوم قبل الغد تطوير مهاراتهم الرقمية، وهذا يحتاج منهم العمل بشكل وثيق مع المطورين الرقميين، فإذا واكبوا الجديد بتقنيات الذكاء الاصطناعي ازدادوا علما وذكاء وخبرات في صناعة الصحافة الحديثة، وأنجز الواحد منهم مهام لا تستطيع مائة مؤسسة لا تستخدم الذكاء الاصطناعي إنجازها، على سبيل المثال تقول الصحفية الإسبانية ماريا كرسبو المتخصصة في مجال استخدام الذكاء الاصطناعي في الصحافة والإذاعة والتليفزيون لو أن صحفية ما تحقق في قضية فساد كبرى وتتلقى مظروفا في غرفة الأخبار به محرك أقراص عليه معاملات مصرفية بسعة تخزين تيرابايت «أي واحد وأمامه إثنا عشر صفرا»، ماذا تستطيع أن تفعل؟ فلو قسمت العمل بين جميع زملائها سيستغرق الأمر إلى الأبد، فهل تتخلى عن المهمة وتنسى التحقيق؟ هنا تأتي المساعدة من خلال الذكاء الاصطناعي بالتعامل مع هذه البيانات الضخمة، إذ يفرز الروبوت المادة الموجودة على القرص ويقدم من بينها ما يتعلق بالقضية في فقرات مبسطة، إذن فقد أعفى الصحفيين من القيام بمهام روتينية رتيبة، وأفسح لهم المزيد من الوقت للعمل على جوانب تتطلب إبداعا بشريا، وما يهم الصحفيين للاطمئنان على مستقبلهم الوظيفي هو أن الروبوتات أو تقنيات الذكاء الاصطناعي لن تحل محل العنصر البشري في إقامة علاقات مع مصادر الأخبار، ولن تستطيع التنبؤ بالأخبار المتوقعة، ولا كتابة مقالات متعمقة، فالجمهور البشري تواق إلى قراءة الرأي والتحليل، وليس فقط البيانات المنظمة التي تتم معالجتها بواسطة خوارزمية يقتصر مجال عملها ما حدث بالفعل.

وبالنسبة لمالكي الصحف فالذكاء الاصطناعي يقلل التكاليف من خلال أتمتة غرف الأخبار وبقية الأقسام، والسرعة في إنجاز الأعمال، إذ يمكن للأداة الواحد إنشاء ألف من الأخبار الروتينية في ثوان قليلة، وكشف الأخبار الزائفة، وهو ما يدعم بقاء الصحافة الورقية.. التفاصيل حول الموضوع لا يمكن حصرها في مقال، نتمنى العودة إليه في المستقبل، إنه عصر السرعة ومن يتخلف لن يكون له مكان في عالم اليوم.

copy short url   نسخ
11/10/2022
340